في كل عصر تنتشر المصطلحات التي تصف الحقبة الزمنية المعاصرة لها, و تعبر عن أبرز الظواهر التي تتخللها سواءً كانت اجتماعية, فلسفية, سياسية أو اقتصادية، و من المصطلحات التي ظهرت حديثًا مصطلح: “ما بعدالحداثة”, فما الذي يعنيه هذا المصطلح, وما هي تجلياته في الظواهر والمجالات العلمية والفنية والاجتماعية؟ سنتحدث في هذه المقالة عن ما يعنيه ذلك المصطلح، ولكن قبل الولوج به لابد من التعريج على مفهوم «الحداثة» لاستمدادهِ التاريخي معه .

الحداثة بمفهومها البسيط هي ثورة على كل قديم, وقلب كل معرفة وبناءها من جديد, بالاعتماد على العقل, المعرفة, العلم أو الأخلاق. وبدأت الفلسفة الحديثة بمؤسسها “ديكارت”الذي اعتمد على العقل وأنشأ نهجًا جديدًا -نظرية المعرفة- أو المنهج الديكارتي, أما الحداثة بشكل عام فبدأت في ايطاليا زمن «عصر النهضة» وقد سايرت حركة النهضة «عملية الإصلاح البروتستانتي» التي انطلقت عام١٥٣٠م, مواكبة أحداث تاريخية كبرى كاكتشاف أمريكا والوصول إلى الهند، واختراع المطبعة واستعمار الشرق, والمحطة الثانية في سيرورة الحداثة الأوروبية هي «فلسفة الأنوار» التي انطلقت من فرنسا على يد مونتسكيو وفولتير, ثم انتشرت الى كلٍ من ألمانيا, وانجلترا, وتعتبر أوروبا الغربية هي مسقط رأس الحداثة الأوروبية, ومن مبادئها الأساسية: استقلالية العقل, رفض الأحكام المسبقة, بلورة منظومة فكرية وسياسية تقوم على مفاهيم الحرية, التسامح والمساواة , وهذه السمات تختص بفلسفة الأنوار أما ما يشمل الحداثة بشكل عام : ظهور التقنية، العلم الرياضي، ارتباط الفن بعلم الجمال، ظهور الثقافة وأفول المعاني القدسية الكبرى. وقد أسفرت الحداثة عن تطور في مجتمعات أوروبا إلى أنه ظهر الكثير من الجوانب المظلمة التي تسربت منها، وانتقدها الكثير من الفلاسفة وأبرزهم «نتيشه»، ويصح أن يطلق عليه أول فيلسوف لـ «مابعد الحداثة», أقام نقده بمنظور الجينيلوجيا لنقض الميتافيزيقا الأساسية، منها (نقد النزعة المساواتية) -وهي أحد المبادئ الكبرى الأساسية التي قامت عليها الحداثة الغربية- وكيف تم تصريفها على القطاع السياسي والاجتماعي, فعلى الصعيد الاجتماعي أدى تطبيق هذا المبدأ إلى إلغاء الفوارق الجنسية بين الرجل والمرأة، حيث نزعت المرأة الى التخلي عن خصائصها الأنثوية سعيا إلى التشبه بالرجال، وحيث الرجل بدوره نزع الى التماهي مع المرأة بحثا عن المساوة معها وهكذا فهمت «المساوة» كتنكر للخصوصيات الفردية والجنسية لصالح التشبه بالنموذج المسيطر والمهيمن
مابعد الحداثة
ترتبط التسمية بالتحولات السوسيولوجية، التاريخية التي هاجمت الدول المتقدمة منذ منتصف القرن التاسع عشر، والتي تمثلت بظهور «المجتمع الاستهلاكي» تسمية ذات وقع اقتصادي اجتماعي، يبدو إذن أن ما بعد الحداثة أو الحداثة البعدية هو تعميق لمسار الحداثة، وسرعة ثانية للحداثة، أي أنها استمرار لمنطق الحداثة ولعمقها، من حيث أنها نقد مستمر وتجاوز مستمر لذاتها
تجلي مابعد الحداثة في القيم والفنون

تحولت القيم في عصر الحداثة الغربية إلى مجرد قيم تبادلية يسعرها السوق وذلك بفعل البرجوازية, فحين يقول ماركس إن سائر القيم تحولت إلى “مجرد قيمة تبادلية“ إنما يعني أن المجتمع البرجوازي لا يمحو بني قيمة قديمة من الوجود بل يصنفها, و إن الأنماط القديمة من الشرف والكرامة لاتموت بل يجري إدماجها في السوق, وتحمل لصقات عليها أسعارها، كما تكتسب حياة جديدة بوصفها سلعًا, وهكذا فإن أي نمط يمكن تخيله من السلوك الإنساني يغدو مسموحًا به أخلاقيًا لحظة صيرورته ممكنًا اقتصاديًا،فكل ما هو مربح مجاز, وعن مجتمع ما بعد الحداثة فهو المجتمع الذي بلغت فيه (التمايز، التسليع، العقلنة) ذروتها بل وتشابكت لتخلق حالة من التداخل الذي لا يخلو من إبهامات, أما في الدين فإلى جانب تعميق ما بعد الحداثة لمفهوم الذات وسعيها على شخصنة الفرد (النرجسية), وبما أنها آلت كل شي من دين وعلم وزمن لاختيار الفرد وذوقه واستحسانه ومعاييره, فهي عملت أيضًا على تمييع الحدود وإذابة البنى الفارقة والفاصلة والمساواة, وأصبح الاختيار يتناسب مع العصر بديناميكيته السريعة المتغيرة، وجعلت الفرد الحديث عائم يفصل ويأخذ من الاخلاق والدين والحقائق حسب الطلب, و في تجليها في الذات و ظهور شخصية (نرجس), يذكر جيل ليبوفتسكي إن كل جيل من الأجيال يحب أن يتعرف إلى نفسه ويجد هويته من خلال شخصية أسطورية أو خرافية كبرى يعيد قراءتها وفقا لإشكال اللحظة: أوديب كرمز كوني، بروميتيوس وفاوستوسيزيف كمرايا تعكس الوضع الحديث, أما الآن فأسطورة نرجس هي التي في أعين كثير من الباحثين وخاصة منهم الأمريكيين، ترمز للزمن الحاضر ومن ابرز خصائصها أنها ذات ثرثارة
فمن حيث كان العصر الحداثي مسكونا بالثورة والانتاج، أصبح العصر ما بعد الحداثي مسكون بالإعلام والتعبير, نحن نعبر كما يقال في العمل من خلال الاتصال، وفي الرياضة والترفيه إلى درجة أن لا يكون هناك نشاط قط يخلو من الوسم”الثقافي”, إننا نشهد دمقرطة غير مسبوقة للكلام، فكلنا مدفوعون إلى الاتصال بالهواتف، وكلنا يجد الرغبة في قول شيء ما انطلاقًا من تجربته الخاصة، وكلنا يمكن أن يصبح متحدثًا وأن يحظى بالاستماع, وينطبق هذا على أي نوع من التعبير سواء بالرسم على جدران المدارس أو العديد من المجموعات الفنية, فكلما أكثرنا من التعبير لم يعد هناك مايقال، وكلما زادت الذاتية كلما كان الأثر متخفيًا وفارغًا, و يتعزز هذا التناقض بسبب أن لا أحد يهتم بغزارة التعبير هذه، باستثناء المرسل أو المبدع نفسه, و هذه هي النرجسية -أي التعبير كيفما أتفق-, و باجتماع اللامبالاة وغياب المعنى إلى جانب النرجسية التي تخص الفرد الحديث دور كبير في وفرة الحديث؛ حيث لا يبالي تجاه المضمون،و لا انمحاءالمعنى، والتواصل أيضًا دون هدف ولا جمهور, وأن يصبح الملقي المتلقي الأساسي لما يلقيه، ومن جملة الإشكالات هذه يكمن السبب بوفرة الحفلات والعروض والأحاديث والحوارات المفتقدة للمعنى عند أي أحد، والتي لم تعد تحسب حتى على المرح, يتواصل الناس من أجل التواصل، ويعبرون بهدف التعبير فقط
و تنفرد اللامبالاة بعد الحداثية عن المعنى المعتاد لها، بأنها لامبالاة من النقص بل لا مبالاة من الاستجداء الفائق, فلم يعد الفرد الحديث في الغرب يشعر بشيء من الذهول أو العار, إن الفتور يقابل فيض المعلومات وسرعة دورانها، فحالما يسجل الحدث ينسى مطرودًا من أخرى أكثر ادهاشًا, حتى أن المساكن والأماكن لم تسلم من الهجران نفسه الذي أصاب الأحداث والمعلومات، ففي الولايات المتحدة، يغير كل فرد من خمسة أفراد مكان إقامته سنويًا، ويتحرك أربعون مليون أمريكي مغيرين عناوينهم, أي حتى التراب و”البيت” لم يصمدا في وجه اللامبالاة, وهذه اللامبالاة ليست مطلقة لكل شي بل موجهة, هاجرت الفضاء الخصوصي لتسكن الفضاء العمومي، فلا يبالي الشخص الحديث بالبيئة ومستقبل البشر ولا بالشؤون العامة و قضايها, ولكنه يولي اهتمامًا مفرطًا للفضاء الخصوصي ومشكلاته الفردية؛ كالتقدم بالسن وزيادة الوزن والمظهر و غيرها بقلق وتوتر, ونتج من ذلك في العصر المعاصر الانهيار والاكتئاب, إذ تفيد الإحصائيات بأن نسبة الانتحار قلت تدريجيًا في القرن العشرين، وزادت حالات الاكتئاب والانفصام الشخصي. ما الذي بقي اليوم لم يعد موضوعا للتهويل والتوتر؟ لقد أصبح كل شيء يطرح إشكالا، سواء التقدم في السن أو زيادة الوزن أو قبح المظهر أو تربية الأطفال أو الذهاب في عطلة، وصارت الأنشطة البسيطة غير ممكنة. فسبب الاكتئاب الحديث ليس من مشكلات يعاصرها الفرد بل من هجر الشأن العام مهامها لصالح الفرد المهوس بذاته والقابل بذلك للإخفاق أمام أي شدة خارجية يواجهها وحده
بالنسبة للفن, فإن أبرز ما يميز الرواية العصرية و الفنون أنها عبارة عن سرد شذري غير مكتمل يتخلله الجنون والغموض، كما أن الفن يتسم بالعشوائية والإثارة وثورة على كل منسق ثابت وأصلي، والذي يتطلبه فهم الأعمال الأدبية هو خيال ومسار وتعاون من المتلقي مع المبدع، ليصبح بالتالي (المبدع المشترك) لهذا العمل. تتماشى الرواية الحديثة مع الدلالة الاجتماعية والتاريخية الجديدة للفرد, حيث أن الروايةالتي ظهرت في بداية هذا القرن لا يمكن تأويلها على انها تمثل الخصوصية أو بشكل أقل كانعكاس للخام التوحدية النفسية, وإن غلب عليها الجانب الذاتي، فليس إفضاء لسرِّ الأنا، وإنما نتيجة للدلالة الاجتماعية والتاريخية الجديدة للفرد. لم تكن روايات هذا التيار ممكنة إلا من خلال تصور مماثل للفرد الذي يفضل ماهو (جنوني وغامض وجزئي ومتفقد) كما هو ظاهر في روايات وُلف, والذي أدى إلى هذه القراءة ليس تصلُّب الأعراف البرجوازية، ولا نزع الإنسانية عن العالم الصناعي والحضري، بل يعود بشكل أكبر وقتما أصبحت العفوية والانطباعات الفجائية والأصالة قيمًا فنية وحميمية تعبر عن أيدولوجيا الفرد المستقل وغير الاجتماعي, الذي يتصف بكونه متحركًا ومن دون ملامح قابلة للتعيين، وتبقى حياته محكومة بالغموض والتناقض, وعلاوة على ذلك، فإن المساواة تقوض هرمية القدرات والأحداث، وتبجل كل لحظة، وتشرعن كل انطباع، ويمكن أن يظهر الفرد تبعًا لذلك على هيئة مُشخصنَة، وبتعبير آخر مجزَّأة ومتقطعة وغير متسقة.
نحن نشهد إسالةً للمعالم الثابتة وللتناقضات بين الجوانب البرانية والجوانية، وفضاءات لا حدود لها ولا مركز, لقد أصبح العالم الفني -أدبيا كان أم تشكيليًا- مفتوحًا, ولم يعد للرواية بداية ولا نهاية حقيقية، وأصبحت الشخصية غير كاملة على شاكلة دواخل ماتيس أو أوجه موديغلياني, فالعمل الفني غير الكامل هو التجلي ذاته لعملية الشخصنة المزعزعة التي تخل مكان التنظيم المتسلسل والمتواصل في الخطاب الكلاسيكي, إلى جانب إضفاء قيمتين أساسيتين وهما: (السخرية والفكاهة) في فن سيادي لم يعد لديه مايتوجب عليه احترامه، والذي ينفتح بذلك على متعة صرف الانتباه الملهي
العرب والحداثة
