ابحث هنا

سوريا 1: دمشق أقدم مدن العالم ومهد الحضارات

مقدّمة

سوريا أو سورية، حديثاً: هي دولة عربية تقع شرق البحر الأبيض المتوسط، وشمال الجزيرة العربية، ويقطعها نهر الفرات من الشمال إلى الجنوب، وتتميز بجغرافيا متنوعة ومناطق زراعية خصبة، تتكون سوريا من 14 محافظة، وعاصمتها دمشق؛ التي تعتبر أقدم مدن العالم على الإطلاق فهي مأهولة بالسكان دون انقطاع منذ ما يقارب أحد عشر ألف عام تقريباً.

لعبت سوريا دوراً مؤثّراً في سائر الحضارات الإنسانية وفي جميع المراحل التاريخية، لا سيّما أن موقعها الجغرافي المميز عند ملتقى القارات الثلاث، جعلها صلة وصل بين الشرق والغرب، ومهدًا لظهور أعرق الحضارات تاريخياً. ساهم موقعها الاستراتيجي في جعلها ملتقى طرق التجارة العالمية، مثل طريق الحرير، حيث امتزجت ثقافات الشرق والغرب، مما ساعد في نقل الأفكار والاختراعات إلى مختلف أرجاء العالم.

في الواقع، سوريا هي مهد الأبجدية والكتابة الصوتية، ومنها انتشرت الكتابة إلى باقي أرجاء العالم، حيث اكتُشفت أقدم الأبجديات المعروفة في العالم بمدينة أوغاريت، والتي شكلت الأساس للعديد من اللغات المكتوبة لاحقًا. كما شهدت مدينة إيبلا أرشيفات طينية تعتبر من أقدم الوثائق التاريخية المدونة، ما يدل على تطور التنظيم الإداري والاقتصادي منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

كما أن التنوع الثقافي والديني الذي عرفته هذه الأرض جعل منها منارة حضارية، إذ احتضنت أديانًا وثقافات عدة، وكانت موطنًا لأول مجتمعات الديانة المسيحية ومركزًا علميًا مزدهرًا خلال العصور الإسلامية. هذه العوامل مجتمعة ساهمت في ترسيخ مكانة سوريا كمهد للحضارات الإنسانية التي أبدعت وأسست أسس الحياة الحديثة.

سوريا عبر العصور

العصور القديمة (10,000 ق.م – 1,000 ق.م)

بدأ تاريخ سوريا مع استقرار أولى المجتمعات الزراعية في مواقع مثل تل المريبط على نهر الفرات، حيث اكتُشفت أدوات زراعية تعود إلى حوالي 10,000 ق.م، ما يعكس بدء الإنسان في ممارسة الزراعة وتدجين الحيوانات.

في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ظهرت مملكة إيبلا التي كانت من أهم الممالك القديمة. عُثر في أرشيفها على آلاف الألواح الطينية المكتوبة بإحدى أقدم اللغات السامية، والتي كشفت عن شبكة تجارية واسعة امتدت إلى ممالك مثل ماري وبلاد ما بين النهرين ومصر. أما مدينة أوغاريت الساحلية، فقدمت للعالم أقدم أبجدية صوتية في حوالي 1,400 ق.م، مكونة من 30 حرفًا، مما شكل قفزة هائلة في تاريخ الكتابة العالمية. إذ أصبحت الأوغاريتية بعد اكتشافها عام 1929 على يد علماء آثار فرنسيين ” أعظم الاكتشافات الأدبية القديمة منذ فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية والكتابة المسمارية في بلاد الرافدين”.

الفترة الكلاسيكية: الفينيقيون والإغريق والرومان (1,000 ق.م – 476 م)

بين عامي 1,000 ق.م و333 ق.م، ازدهرت الحضارة الفينيقية على السواحل السورية، حيث أسست مدنًا تجارية مثل أرواد وجبيل واشتهرت بابتكاراتها البحرية وتجارتها المزدهرة.

في 333 ق.م، غزا الإسكندر الأكبر سوريا، لتصبح جزءًا من العالم الهلنستي، حيث تطورت مدن مثل أنطاكية لتكون مركزًا ثقافيًا وتجاريًا هامًا. لاحقًا، ضمت الإمبراطورية الرومانية سوريا في 64 ق.م، وازدهرت المدن الرومانية مثل بصرى وتدمر. الأخيرة كانت معروفة بقيادة ملكتها الشهيرة زنوبيا، التي قادت تمردًا ضد الإمبراطورية الرومانية بين عامي 267 و272 م، محاولة توسيع نفوذها إلى مصر وآسيا الصغرى.

العصور الإسلامية: نهضة علمية وثقافية

فتحت أغلب المدن السورية سلمًا عام 14 هـ/636 م أيام خلافة عمر بن الخطاب وتحت قيادة أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهم. وكانت أولها فتحًا؛ دمشق. والتي توجّهت إليها جيوش المسلمين بعد معركة اليرموك، استجابة لتوجيهات الخليفة عمر بن الخطاب الذي أمر بالتوجه إلى دمشق لأنها تُعتبر حصن الشام ومركز قوتها. كما جاء بيان ذلك في البداية والنهاية لابن كثير:

“لَمَّا ارْتَحَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الْيَرْمُوكِ فَنَزَلَ بِالْجُنُودِ عَلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ إِذْ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِقُدُومِ مَدَدٍ لَهُمْ مِنْ حِمْصَ، وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الرُّومِ بِفِحْلٍ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ يَبْدَأُ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ الْجَوَابُ أَنِ ابْدَأْ بِدِمَشْقَ فَإِنَّهَا حِصْنُ الشَّامِ وَبَيْتُ مَمْلَكَتِهِمْ، فَانْهَدْ لَهَا وَاشْغَلُوا عَنْكُمْ أَهْلَ فِحْلٍ بِخُيُولٍ تَكُونُ تِلْقَاءَهُمْ، فَإِنْ فَتَحَهَا اللَّهُ قَبْلَ دِمَشْقَ فَذَلِكَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ فُتِحَتْ دِمَشْقُ قَبْلَهَا فَسِرْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ وَاسْتَخْلِفْ عَلَى دِمَشْقَ، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِحْلًا فَسِرْ أَنْتَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ وَاتْرُكْ عَمْرًا وَشُرَحْبِيلَ عَلَى الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ.”

هذا الفتح جعل دمشق أولى المدن الكبرى التي دخلت تحت الحكم الإسلامي، وعزز فتوحات بقيّة المناطق في بلاد الشام، ما عزز مكانة سوريا في زمن الخلافة الراشدة. ولاحقاً، أصبحت دمشق عاصمة الخلافة في العصر الأمويّ الذي بدأ في عام الجماعة (41 هـ/661 م). حيث شهدت سوريا بأسرها نهضة غير مسبوقة في جميع المجالات. كونها كانت مركزًا سياسيًا وإداريًا للعالم الإسلامي. كما تطورت معالمها الحضارية بشكل ملحوظ. مثلاً؛ بُني الجامع الأمويّ الكبير الذي ما زال من أعظم معالم العمارة والحضارة الإسلامية الباقية حتى اليوم. وأصبحت ملتقىً للعلماء والمفكرين من مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ ومحضناً لهم.

كان من أهم مجالات الازدهار في العصر الأمويّ إجمالاً العلوم الدينية واللغوية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والطب. وقد انقسمت الحركات العلمية في هذا العصر إلى أربع حركات، وهي الحركة الدينية (المعنية بعلوم الدين، مثل تفسير القرآن والأحاديث والتشريع) والتاريخية (المعنية بتوثيق التاريخ والقصص والمغازي ونحوها) والأدبية (المعنية بالشعر والنثر وما إلى ذلك) والفلسفية (المعنية بالمنطق والكيمياء والطب وما شابهها). لاحقاً، وفي العهد العباسيّ، انتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد، إلا أن دمشق ظلت تحتفظ بأهميتها كمركز ثقافي وتجاري رئيسي في العالم الإسلامي خلال العصور اللاحقة.

العصور الوسطى: صمود في وجه الغزوات

خلال الحروب الصليبية التي بدأت في 1099 م، احتُلت أجزاء من سوريا، بما فيها مدينة أنطاكية. لكن سوريا سرعان ما استعادت مكانتها في ظل قيادة صلاح الدين الأيوبي، الذي نجح في استعادة القدس بعد معركة حطين عام 1187 م. بعد حكم الأيوبيين، تعرضت سوريا للغزو المغولي سنة ٦٥٨ هـ/١٢٦٠ م فردهم المماليك وسيطروا عليها. وفي عهدهم غزا تيمور لنك سوريا، أحد أعظم قادة المغول، والذي قاد حملة عسكرية مدمرة على المشرق الإسلامي.

اجتاح تيمور لنك مدن سوريا واحدة تلو الأخرى، في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي (القرن الثامن الهجري)، بما في ذلك دمشق وحلب، فأحرق مدنها وقتل كثيرًا من أهلها وعاث في الأرض قتلاً وفساداً. وقد عُرفت حملة تيمور لنك بوحشيتها وشدتها، حيث قُتل الآلاف من المدنيين، وأجبر الحرفيين وأصحاب المهن والمهارات على الإنتقال إلى عاصمته سمرقند لتعزيز اقتصاد إمبراطوريته. كما أن الحروب المتواصلة أضعفت القوة العسكرية والسياسية في المنطقة.

بعد انسحاب تيمور لنك ووفاته عام 1405 م، دخلت سوريا في حالة من الفوضى والضعف، نتيجة تدمير بنيتها التحتية واضطراب الأوضاع السياسية. وقد استغل المماليك هذه الفترة لإعادة السيطرة على المنطقة، لكن ضعف الدولة المملوكية لاحقًا، بسبب الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية، جعلها عرضة للتوسع العثماني.

في عام 1516 م، هزم السلطان العثماني سليم الأول الجيش المملوكي، ونجح في ضم بلاد الشام إلى الدولة العثمانية. شكلت هذه المعركة نقطة تحول تاريخية، حيث انتقل الحكم في سوريا رسميًا من المماليك إلى العثمانيين. أصبحت سوريا تحت الحكم العثماني جزءًا من ولاية الشام، ودامت هذه السيطرة أكثر من أربعة قرون، حيث شهدت سوريا في هذه الفترة استقرارًا نسبيًا، وازدهرت العديد بما فيها دمشق وحلب، التي أصبحت من أهم المراكز التجارية والثقافية الرئيسية في الإمبراطورية العثمانية.

خلال المرحلة الأخيرة من الحكم العثماني منذ 1840 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 ازدهرت البلاد ونمت طاقاتها الاقتصادية بسرعة وعرفت ازدهارًا ثقافيًا وسياسيًا في المدن الكبرى، وكان تأسيس المطابع، ودور النشر، والمجلات، والصحف، والمدراس الوطنية والأجنبية، والجامعات، والجمعيات الوطنية السياسية والعلمية أحد أبرز وجوهها. ورغم زوال الحكم العثماني، لا تزال آثاره المعمارية قائمة في المدن الكبرى خاصة ممثلة بالقصور والحمامات والمساجد والخانات والأسواق، كما أن عددًا من العادات والمفردات اللغوية والمأكولات التركية أصبحت جزءًا من تراث وثقافة سوريا.

هذه النقطة من السرد تقودنا للعصر الحديث من تاريخ سوريا، والذي كان زاخراً بالأحداث المفصلية المؤثرة على تاريخها الحديث. ولذلك، فإننا سنكمل السرد التاريخيّ حوله في مقالٍ قادم.

قائمة المراجع والمصادر:

محمد بن يعقوب بن السراج الفيروز آبادي؛ محمود مسعود أحمد (2009). قاموس المحيط (ط. الأولى). صيدا، لبنان: المكتبة العصرية.

دمشق ما قبل التاريخ، موسوعة دهشة.

ابن كثير، إسماعيل بن عمر. البداية والنهاية. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي. الطبعة الأولى. القاهرة: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1997-1999.

الحركة العلمية في العصر الأموي

الدولة الأموية

دمشق عام 803 هجري الموافق 1401 ميلادي

شاركنا رأيك

اقرأ أكثر:

Image | 2025 ديسمبر - متى نتوقف عن ممارسة المرونة؟ - WAQT - مدونة وقت

متى نتوقف عن ممارسة المرونة؟

المرونة مهارة رائعة تساعدنا على التكيف مع التحديات وتحقيق النجاح. ومع ذلك، ليست كل المواقف تتطلب التكيف المستمر. أحيانًا، يكون التوقف عن المرونة هو...

اكتشاف المزيد من WAQT - مدونة وقت

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading