هل فكّرت يومًا أن المباني التي نراها كل يوم لا تصمت؟
أن الجدار، والشباك، والظل، والحوش، كلّها تتحدث… ولكن بطريقتها؟
في هذه الرحلة، لن نقرأ العمارة كفن فقط، بل سنقرأها كمرآة للناس، وامتداد لروح الأرض. سنبدأ من نجد، وتحديدًا الرياض، ونسأل: كيف بنت هذه المدينة نفسها؟ وماذا أرادت أن تقول؟
وسط نجد: حين يُصمم الصمت

خذ لحظة وتأمل عمارة وسط نجد.
لماذا كل شيء فيها مرتفع، صامت، ومغلق؟
الجدران شاهقة. النوافذ صغيرة ومتوارية. الأزقة ضيقة ومتعرجة. لا زخارف في الواجهات، ولا نوافذ تطل على الشارع. كأن المبنى كله يهمس:
“لا تنظر… ولا تسأل…”.
هل هذا مجرد طراز عمراني؟
أم أن وراءه فلسفة عميقة؟
فلسفة تعكس طبيعة الإنسان النجدي، الزاهد، الهادئ، الذي لا يحب الاستعراض؟
في عمارة نجد، كل شيء يُبنى ليخفي لا ليُظهر. القصور تشبه البيوت، والأسواق تشبه الجدران… كلها تؤدي وظيفتها دون صخب. هذا ليس عيبًا… بل قيمة.
قيمة تقول: “أنا أعيش لنفسي، لا لأبهرك”.
لكن ماذا عن الداخل؟

وهنا تأتي المفاجأة…
ما إن تخطو داخل البيت النجدي، حتى ينقلب كل شيء.
ينفتح المكان على فناء داخلي فسيح، يدور حوله البيت، كأن الحياة الحقيقية تبدأ فقط حين تغلق الباب خلفك.
لماذا هذا التناقض؟
في الخارج: صمتٌ، جفاف، تحفظ.
في الداخل: نور، زخرفة، نخلة، ظل، تنفس، حياة.
الزخرفة تظهر، لكن لا في الواجهة… بل في المجالس، في الأسقف، في الأبواب الخشبية. الزخارف النباتية تظهر كأنها رمز الحياة في قلب الصحراء. وكأن الرسالة هي:
“الحياة هنا… لكن لن يراها إلا من أُذن له بالدخول”.
الرياض اليوم: هل تخلّت عن نفسها؟

وهنا نسأل السؤال الصعب:
ماذا حدث للرياض؟ هل ما زالت تشبه نفسها؟
المباني ارتفعت، الزجاج احتل الواجهات، الطين انسحب من المشهد، والهوية بدأت تتلاشى بين ناطحات السحاب ومشاريع “الواو”.
صرنا نطلب من الرياض أن تُبهر، أن تستعرض، أن تتشبه بغيرها.
لكن الرياض الحقيقية… كانت دومًا ضد الاستعراض.
فهل نحن نطلب من المدينة أن تكون ما لم تكنه أبدًا؟
بين الأصالة والانبهار: من نكون؟

هل الماضي “عيب” يجب التخلص منه؟ أم “جذر” يجب أن نفخر به؟
كثيرون يرون أن الرياض القديمة “متقوقعة، غير ملهمة، لا تليق بالحداثة”.
لكن، مهلاً…
من قال إن الخصوصية ضعف؟ وإن الصمت قبح؟ وإن البساطة نقص؟
الرياض الحديثة تعيش صراعًا… بين صورتها الجديدة، وروحها القديمة التي نحاول نسيانها.
ولكن… هل يمكن أن تنمو مدينة بلا جذر؟
نجران: حين تتحدث العمارة بخجلٍ جميل

ثم نلتفت جنوبًا… إلى نجران.
نفس الروح الوظيفية، نفس النوافذ الصغيرة، نفس الكتل المعمارية.
لكن، هناك فرق.
نجران تخاطبك، بهدوء، بلطافة.
تريك زخارف الجص، تعرّفك على خطوطها البيضاء، وتفتح لك باب الفخر، لا بوصفه استعراضًا، بل بصمة شخصية.
ما الذي يجعل نجران تُظهر نفسها أكثر من نجد؟
ربما الاختلاف في المزاج… أو في فلسفة الحياة.
فبينما نجد تقول: “استر وادخل”،
نجران تقول: “انظر… ستفهمني من بعيد”.
خاتمة: هل نبني حجرًا فقط، أم نبني هوية؟
في النهاية، كل مدينة تكتب قصتها بالحجر والطين والظل.
الرياض كتبتها بالصمت والانغلاق ثم حاولت تمزيق الصفحة.
ونجران كتبتها بالفخر الهادئ، واحتفظت بها.
لكن السؤال الأهم يبقى:
هل سنظل نُحمّل مدننا هويات لا تشبهها؟
هل يمكننا أن نُعيد للرياض روحها دون أن نحبسها في الماضي؟
هل يمكن أن نبني مدينة، تعيش العصر، وتفخر بجذرها في آنٍ واحد؟
هذا ما يجب أن نبحث عنه… قبل أن تتكلم المدن بلغات لا نفهمها






