ابحث هنا

هل يجب أن نفعل كل ما يلزم لنصل للسعادة ؟

التعليمات الروحانية الحديثة تخبرنا بأن السعادة مهمة، المتحدثون التحفيزيون، الكتب، قنوات التلفاز، السينما، وسائل التواصل الاجتماعي، وكل ما نتعرض له يخبرنا إن السعادة مهمة بل في غاية الأهمية. اترك عملك إن لم تكن سعيداً، غادر أصحابك إن لم تكن سعيداً، استبدل زوجك إن لم تكن سعيداً، جد محيطاً جديداً، ابتعد عن عائلتك، أهجر دولتك، سر في درب جديد وغير تخصصك، تلاعب بشكلك، وهلم جراً، افعل ما شئت لتكون سعيداً، وعلى الرغم من أن هذه العبارات تصح في ظروف بعينها إلا إنها ليست صحيحة بالمطلق، لأن السؤال هنا ما مدى ما يستلزمنا من الشعور بعدم السعادة ليكون خيارنا صائباً؟ هل عدم بهجتنا الدائمة كافية؟ هل بكاؤنا ليلاً ذات مرة هو مقدار البؤس الكافي؟ هل يكفي أن ترتفع أصواتنا غضباً عدداً من المرات؟ وهل نحن أصلاً نبحث عن السعادة بشكل أساسي؟

نركض لاهثين في حياتنا نبحث عن السعادة، نسير في كل ما يتاح لنا من طرق للوصول أثر من آثار السعادة وبعض من شذاها، نجهد أنفسنا ونلومها إن لم نصل إلى السعادة، ولكن لماذا؟ بحث الإنسان وبقية الكائنات الحية منذ بدء الخليقة عن طرق للبقاء، غريزته الفطرية دفعته ليتمسك بحبال النجاة مهما كان العيش شاقاً، ثم تطورت الحضارة البشرية وظهرت المجتمعات المدنية وبدء الإنسان يفكر ويتعلم، لم تعد فطرته هي ما تحركه، فأصبحت المكانة والوجاهة والسلطة والمال هي مقصده، فكان ينشد البقاء عبر التأريخ بعد أن كان ينشد البقاء الآني، وهذا ألقى على روحه أعباءً جديدة على تكوينه الإنساني، ثم جاءت الديانات للتخفيف عن هذا الإنسان، ولكي تحد من جشعه، وتشير إلى عواقب أفعاله، وتمنح لحياته غاية البقاء الأخروي، والبقاء عبر الأثر الأحسن، وهو بقاء أطول أمداً وأجدى نفعاً.

السعادة في القرآن

نفعاً. ففي القرآن الكريم ذُكرت اشتقاقات كلمة سعادة مرتين عند ذكر أهل الجنة، وذُكرت اشتقاقات كلمة بشرى في هذا السياق، ويعلمنا أن فرح المؤمنين برحمة الله إذ أنزل عليهم رسالاته وهداهم بنوره إلى جادة الصواب، وإن أولئك الذين يسعون إلى الفرح الدنيوي سرعان ما يقنطون إن تبدلت الحال، فالدنيا سراب متقلب لا تدوم على حال، والاحباط مصاحب لمن يتمسك بأثرها. إذن من أين جاءت فكرة العيش من أجل السعادة فقط؟ عند العودة إلى جذور الخطابات المولعة بالسعادة نتلمس فيها آثار مشوهة من التعاليم البوذية التي استحوذ عليها الغرب وفسروها وفق مفاهيمهم وثقافاتهم وآهوائهم اللا دينية، فحتى البوذية لا ترى هذه الحياة بأهمية كبيرة وتؤكد على أثر العمل.

البحث عن السعادة

َونجد الدراسات المستفيضة حول السعادة في مجال الإدارة، حيث تسلط الضوء على كيفية تحفيز شعور السعادة لدى العاملين والمحافظة على هذا الشعور لأطول مدة وكيفية التعامل مع مشاعر الحزن والغم للعودة سريعاً إلى عجلة الإنتاج، فما يعنيه ذلك إن إحدى أوجه السعادة التي نطاردها اليوم لا تتسبب إلا بجعلنا أكثر بؤساً وجعل رؤوس الأموال أكثر ثراءً وسعادةً. وهناك تلك الخطابات التي تقترح أن البشر سيكونون أكثر سعادة لو الحياة أصبحت من السهولة والرفاهة بما يمكن الأفراد من عدم القلق حول أي شيء وعدم بذل أي جهد بدني في إنجاز أي شيء، وهو الأمر الذي لا يحتاج أي جهد لدحضه فتزايد الانحرافات الفكرية والسلوكية والأمراض النفسية وحالات الإنتحار والفوضى العارمة التي نعيش فيها على رغم من تسهيلات الحياة وزيادة أوقات الفراغ جواب بيّن. تتضارب السعادة مع النجاح أيضاً وهو أحد الأهداف الذهبية التي فُرضت علينا فرضاً، فإن النجاح في نيل شهادة عليا أو الحصول على ترقية مثلاً يرافقه فترات قد تطول من عدم الشعور بالسعادة، فهل سعادة اللحظة هنا أهم أم السعادات اللاحقة الممكنة المصاحبة للنجاح؟

معظم تجارب الحياة ليست سعيدة سعادة آنية ولكنها ذات غايات سامية وأنها أساسية لا غنى عنها قد تلقي بظلال السعادة في آخر الطريق أو في بعض محطاته، فالتعلم مرهق، وإنجاب وتربية الأطفال عناء، والعمل نَصَب، والتطوع تعب، وهلم جراً. تتضارب القيم العليا مع سعادة اللحظة في أحيان كثيرة، فالسائر في طريق الحق قد يكون وحيداً، وقد تحاربه جيوشاً عتيدة، وقد يخسر سعادات يمتلكها فعلاً، فهل عليه التخلي عن قيمة أساسية مثل الحق من أجل قيمة ثانوية كالسعادة؟

منظومة السعادة

تناول المخدرات تمنح المتعاطي سعادة، ولكنها تجلب هماً وندامة على المدى البعيد فهل يمكن أن تصح عبارة “افعل ما يجعلك سعيداً” هنا؟ إن المشاعر منظومة متناسقة يكون فيها كل شعور بالكم المناسب، ويدعم كل منها الآخر، وتعطي كل منها رسالة ما، الاعتراف بكل المشاعر ومنحها مساحة للظهور حتى نستطيع التعامل معها وفهم رسائلها يجعل منا أشخاصاً ناضجين. تعظيم شعور واحد من المشاعر حد العبادة، والجري خلفه لن يحوله إلى معجزة، بل سيجعله بعيداً جداً كما الطائر الذي كلما اقتربت من إمساكه طار.

السعادة الدائمة خلل في القلب، أو عمى عن رؤية الحقائق، أو هروب منها. تخدير المشاعر للوصول إلى حالة شبيهة بالسعادة يخل بالاتزان النفسي، وفيها يكون الإنسان أقرب إلى طفل متذمر من الإنسان الناضج ولذا تعاني الحضارة المعاصرة من اضطراب وتقلبات غير محمودة العواقب

شاركنا رأيك

اقرأ أكثر:

سلسلة الفن | قوة السينما

تتمتع السينما بتأثير جدير بالاعتبار، فكثير منا يتذكر بإعجاب بعض مشاهد الأفلام، والأدوار التي يؤديها الممثلين فيها تترك فينا أثراً قوياً. الفيلم هو...

هل تعاني من رهاب السعادة؟

ورضيتُ بالخسارة: عن الخوف من السعادات والبهجة البراقة “خفتُ من جمالكِ لأنه كانَ جميلاً، كما أنني كنتُ أضعف من أن أسكنَ صاعقته، أو أن أعومَ في...

الصحافة في مصر أداة النهضة

كانت مصر من الدول العربية الأولى التي أدخلت الصحافة إلى نسيجها، وخلال فترة من الزمن وسلاسل من التحديات استطاعت تحويل الأداة التي جاء بها المستعمر...

%d bloggers like this:
Verified by MonsterInsights