
كانت مصر من الدول العربية الأولى التي أدخلت الصحافة إلى نسيجها، وخلال فترة من الزمن وسلاسل من التحديات استطاعت تحويل الأداة التي جاء بها المستعمر للسيطرة على فكرها والتأثير في نشأة أبنائها إلى أداة بناء ونهضة، وصوت لإيقاظ ضمير الأمة وتنوير طريقها إلى المستقبل، فالشعوب بحاجة إلى أداة تواصل تعرف عبرها شؤونها وأحوال بلادها فتساعدها هذه المعرفة في تقرر مصيرها وتوقي ويلات الحروب والكوارث الطبيعية واستبداد الحاكمين، كما أنها بحاجة إلى التثقف وتنمية مداركها العقلية لتكون خليقة باجتياز المصاعب والعقبات واعتلاء عرش المجد.
صدرت عدة صحف أجنبية في مصر قبل الصحف العربية الأولى، ولكن لا يمكن عد تلك الصحف صحف مصرية إذ إن الغاية منها تضخيم منجزات المستعمر وبيان أهميته وذكائه، مقابل التأكيد على ضعة ابن البلد وجهله وقلة حيلته.
انبثقت الصحف الأولى في مصر في عهد محمد علي باشا الذي كان حارساً أميناً على شعب مصر، وكان يؤرقه وضع البلاد بعد الاحتلال الفرنسي، فسعى إلى إنشاء نظام إداري لم يكن لمصر عهداً به من قبل، حيث قسم كل مديرية إلى أقسام جاعلاً لكل منها مأموراً يرفع له تقارير شهرية أو أسبوعية لكي لا يخفى عليه أمر من الأمور، ولا يغيب عنه تقصير المقصرين، وكان شديداً صارماً لا يرضى بقليل من التقصير، فيدفن المقصر حياً في الأرض التي لم يؤدي عمله فيها على أتم وجه.
ولما رأى محمد علي باشا إن المدة المقررة طويلة، وأنه بعض الأحوال بحاجة إلى البت فيها على وجه السرعة، أصدر قراراً برفع التقارير يومياً إليه لتدارك الشؤون المستعجلة.
وكان يرى أن كاتب التقارير الذي يتهاون في رفع تقارير يعيق المصلحة العامة ويرهق عباد الله ويعطل حوائجهم، ولذا فهو يستحق العقاب.
شرت المطبعة التابعة لمحمد علي باشا هذه التقارير، بلغتين العربية والعثمانية، وكانت تحتوي على أخبار من الأقاليم، وأخبار حكومية رسمية، بالإضافة إلى قصص من ألف ليلة وليلة، مع اجتناب تلك الأخبار التي توقع الضرر في حال نشرها، وكانت توزع على المأمورين وحدهم، وتحمل إرشادات الوالي وأوامره، وحركة العمل وتوجهاتها، فأصبحت هذه المنشورات هي صحيفة الوقائع المصرية، وهي أقدم صحيفة عربية في مصر.
وساعدت هذه الصحيفة طوال حكم محمد علي على إرساء أسس النهضة، وبناء قواعدها، والارتقاء بمصر، فأدى هذا النظام الإداري المعتِمد على تداول المعلومة من خلال الصحيفة إلى مراقبة الوالي أبعد نقطة في البلاد، واتخاذ إجراءات سريعة، وإيصال تعليماته لكل العاملين في إدارته، وهو أمر لم تعهده مصر.
كان محمد علي ضليعاً في إدارة الأمة، واستخدم الصحافة أداة بين يديه، حيث عين متخصصين في كتابة الصحيفة ومنهم رفاعة الطهطاوي، وحدد فئات خاصة يحق لها امتلاك الصحيفة، ووزعها على بلاد الشام والسودان والحجاز، وأذاعت إنجازاته من تشييد المدارس، وإنشاء المصانع، وإحياء الزراعة، ومد الطرق والجسور، وبناء قوة عسكرية، وازدهار التجارة، وتشجيع الفنون والآداب والعلوم، إذ أراد بهذه الإذاعة أن يجعل الشعب يؤمن بجدوى السياسات القاسية المتعبة وكانت تشقي كاهله ويضيق به حملها في أحيان كثيرة.
وقد ساهمت هذه الجهود على مدى حكمه الذي دام أربعين عاماً من تغيير وجه مصر الذي أنهكه الاستعمار وأضعفه، وشتت طاقاته، واستطاع أن يدفع به إلى مصاف الركب السائر نحو المستقبل من البلدان، فتقلدت مصر في العصر الحديث مكانتها المستحقة بين الدول العربية ودول أوروبا.