ابحث هنا

تلخيص كتاب: إغاثة اللهفان

الباب الأول:

في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت

  1. القلب الصحيح: وهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال الله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89). والسليم هو السالم الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له. فالقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، توكلا وإنابة، واخباتاً وخشية ورجاء، وخلاص عمله لله تعالى.
  2. القلب الميت: هو الذي لا حياة به، لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه. فهو متعبد لغير الله: حبا، وخوفا، ورجاء، ورضا، وسخطا، وتعظيما، وذلاً، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه. فمخالطة صاحب هذا القلب سقم، ومعاشرته سم، ومجالسته هلاك.
  3. والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة؛ فله مادتان، تمتد هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما:-ففيه من محبة الله وتعالى والايمان به والخلاص له والتوكل عليه: ما هو مادة حياته. -وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو في الأرض بالرياسة. وهو ممتحنٌ بين داعيين: داع يدعو الى الله ورسوله والدار الاخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا، وأدناهما اليه جوارا.

الباب الثاني:

في ذكر حقيقة مرض القلب

قال الله تعالى عن المنافقين: ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) وقال أيضا: (لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ). ولمّا كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، خروجه عن اعتداله الطبيعي، لفساد يعرض له.. فالقلبُ محتاجٌ إلى:

  • ما يحفظ عليه قوته؛ وهو الإيمان والطاعات.
  • وإلى اجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات.
  • وإلى استفراغه من مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات.

ومرضه هو نوع فاسد يحصل له، يفسد به تصوره للحق، فلا يرى الحق حقا، أو يراه على خلاف ذلك، فيبغض الحق النافع، او يحب الباطل الضار.

ولهذا يفسر المرض الذي يعرض له:

  • تارة بالشك
  • وتارة بالشهوات؛ كالزنا وغيره من المعاصي.

ولمّا كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك، فكذلك القلب اذا فيه مرض؛ أذاه أدنى شيء من شبهة أو شهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوته وصحته.

الباب الثالث:

في انقسام ادوية امراض القلب الى قسمين؛ طبعية وشرعية

مرض القلب نوعان:

  • النوع الأول: لا يتألم به صاحبه في الحال، كمرض الجهل، الشبهات، والشهوات؛ وهذا النوع هو أعظمالنوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم؛ وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل واتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
  • النوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة ما يضاد تلك الأسباب. وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها.

فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضا. وكذلك الغم والحزن من أمراض القلوب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور. وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع.

الباب الرابع:

في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه

وحياة القلبِ ونوره مادة الخير كله وضد ذلك شره:

(أوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122). 

فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوته، وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة. وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الصحيح الحي إذاعرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها. وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المريض وضعفه.

الباب الخامس:

في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق مريداً له، مؤثراً له على غيره

لمّا كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادية والحب كان كماله وصلاحه باستعماله هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحقّ ومعرفته، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوبٌ عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعَمٌ عليه.

الباب السادس:

انه لا سعادة، ولا صلاح للقلب إلا ان يكون إلهه وحده هو معبوده وغاية مطلوبة وأحب اليه من كل ما سواه

معلومٌ أن كلّ حي سوى الله من مَلك، أو إنس، أو جن، أو حيوان؛ فهو فقير الى الله جلب ما ينفعهودفع ما يضره، ولا يتم إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب. فلا بد له من أمرين:

  • أحدهما: المحبوب المطلوب الذي ينتفع به، ويلتذ بإدراكه.
  • والثاني: المعين الموصل، المحصل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران: أحدهما: مكروهٌ بغيضٌ ضارّ، والثاني: معينٌ دافعٌ له عنه، الثالث: الوسيلة الى حصول المحبوب، الرابع: الوسيلة الى دفع المكروه

فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه؛ فهو المعبود المحبوب المراد، والمعين على وصوله اليه وعبادته، والمكروه البغيض هو بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، فالأمر كله له والملك له والخير في يديه.

الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته وحده والخضوع والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أحسن الحسنات وكان توحيد الربوبية رأس الأمر، وتوحيد الربوبية لا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم.

الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفَس. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق، فلا يطمئن ولا يسكن إلا بذكره تبارك وتعالى.

الوجه الرابع: أن تعلّق العبد بما سوى الله تعالى مضرّة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعة الله، فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب فلا بد أن يسئمهويفارقه، فإن أحب لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه؛ إما في الدنيا وإما في الآخرة.

*ومحبّ الدنيا لا ينفك من ثلاث: همٌّ لازم، وتعبٌ دائم، وحسرةٌ لا تنقضي.

وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه الى ما فوقه، كما في الحديث الصحيح (لو كان لابن ادم ودأيان من مال لابتغى لهما ثالثا.) وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها. وعشاق الصور إذا اجتمع هو معشوقه على غير طاعة الله، جمع بينهما في النار، وعذب كل منهما بصاحبه وفي الحديث (المرء مع من أحب).

الوجه الخامس: إن اعتماد العبد على المخلوق، وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أملته منه، فلا بد أن يخذل من الجهة التي قدر أن ينصر منها.

الوجه السادس: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك وإن أضر ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك، والرب تعالى إنما يريد لك الإحسان والمنفعة ودفع الضرر عنك.

الوجه السابع: أن العبد لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله عليها، ولا يريد الله فيه إرادة ومشيئة.

الوجه الثامن: أن الله تعالى غنيٌ كريمٌ عزيزٌ رحيم، فهو محسنٌ إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف الضر، لا لجلب منفعةٍ إليه من العبد ولا لدفع مضرة؛ بل رحمة منه وإحسانا، فهو سبحانه الغني عن خلقه.

الباب السابع:

في أن القرآن متضمنٌ لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هي أمراض شبهات وشهوات، والقرآن شفاءٌ للنوعين:

  • الشبهات: إذ فيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الإبطال؛ فنزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والادراك، بحيث يرى الأشياء على ماهي عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والنبوات.
  • الشهوات: ويكون بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الاخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار.

الباب الثامن:

في زكاة القلب

الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح وكمال الشي، يقال: زكا الشيء إذا نما، وقال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها). فجمع بين أمرين: الطهارة والزكاة لتلازمهما؛ فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، بمنزلة الخبث في الذهب والفضة، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت فعملتعملها بلا معوق ولا مانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:

  • حلاوة الايمان ولذته
  • نور القلب وصحة فراسته
  • قوة القلب وثباته وشجاعته

الباب التاسع:

في طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

القلب الطاهر لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يطهره الله، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي لا تلائم الصحيح. وقد دلت الآية على من لم يطهر الله قلبه فلابد من ان يناله الخزي في الدنيا والاخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه، (طبتم فادخلوها خالدين).

وقد ذكر الله في كتابه ان الشرك من النجاسات وغيرها من المعاصي كالزنا واللواط، (يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس). ونجاسة الشرك نوعان: مغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. مخففة: الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف به.

وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها بوجه آخر؛ لا تستلزم تنقيص الربوبية ولا سوء الظن بالله، ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات ما رتبه على المشركين. فلو لقي الموحد ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة.

ونجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرهما من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدًا، ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة هم أكثرهم شركا؛ فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة فيه أخبث.

وعشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من اعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه أصبح متيم بها لا يفارقها. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، فليس في الذنوب أفسدللقلب والدين، ولهما خاصية تعبيد القلب من دون الله.

الباب العاشر:

في علامات مرض القلب وصحته

كلّ عضو من أعضاء البدن خُلق لفعل خاص به، كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه أن يتعذر عليه الفعل، كمرض العين أن يتعذر عليها الرؤية، واللسان يتعذر عليه النطق، ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق اليه، والخضوع له.

فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم، بل إذا كان القلب خاليًا من ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذاباً له، فيصير معذباً بنفس ما كان منعماً به من جهتين:

  • من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به.
  • ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به.

وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحتهواسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته،وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق ولا عقائده الباطلة. والبعض إن شعر بذلك اشتدت عليه مرارة الدواء والصبر عليه فيؤثر بقاء ألمه على مشقّة الدواء، ودواءه في مخالفة الهوى وذلك أصعب عليه، وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره.

ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة لها إلى الأغذية الضارة، وهناك أربعة أمور:غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، وداء مهلك. فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك.

وأنفع الأغذية: غذاء الإيمان.

وأنفع الأدوية: دواء القرآن. وكلٌ منهما فيه الغذاء والدواء.

ومن علامات صحة القلب: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويزهد فيها. ومن علامته أيضًا: أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلّق به تعلّق المحبّ المضطر له.

الباب الحادي عشر:

في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه.

وقد اتفق السالكون إلى الله على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يدخل عليهسبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد تركها، وإماتتها بمخالفتها، والظفر بها. فإن الناس على قسمين:

  • قسم ظفرت به نفسه؛ فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها تحت أوامرها.
  • وقسمٌ ظفروا بنفوسهم؛ فقروها، فصارت طوعاً لهم، منقادةً لأوامرهم.

وعلاج القلب باستيلاء النفس الأمّارة عليه له علاجان: محاسبتها ومخالفتها. وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها اتباع هواها. فحق الحازم المؤمن بالله واليوم الاخر، ألا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها.

ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده. فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند اول همته وارادته، ولا يبادر بالعمل حتى يبين رجحانه على تركه. قال الحسن (رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر).

النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. الثاني: أن يحاسب نفسه على عمل كان تركه خيراً له من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟

الضابط في عمل العبادات: أن تكون مخلصة لله ومتبعة لسنة النبي الكريم.

الباب الثالث عشر:

في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن ادم.

ومن كيده للإنسان: أن يورده الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنا والقتل ويفضحه. ومن كيده أيضا: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، وهذا أعظم كيده بأهل الإيمان.

ومن مكايده: أنه يسحر العقل دائمًا حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فزين له الفعل الذي يضره، حتى يخيل اليه انه من انفع الأشياء له. ومن كيده العجيب: أنه يشأم النفس، حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الإحجام والمهانة؟

فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، وهون عليه تركه، وإذا رأى عليه قوة الإقدام وعلو الهمّة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.

ومن كيده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاته الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب.

ومن كيده: أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد، أورباط، أو زاوية، أو تربة، ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج.

كيده في الفتن:

١. في النية والصلاة والطاهرة:

النية مقصودها العزم على فعل الشي، ومحلها القلب، لا تعلق لها باللسان أصلا، ولذلك لم ينقل النبي ولا أصحابه في النية اللفظ، وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطاهرة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركًا لأهل الوسواس، يحبسهم عندها، ويعذبهم فيها، ويوقعهم في طلب تصحيحها؛ فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء. ومن ذلك أيضًا تكرار الوضوء والشكّ في عدم الغسل والطهارة.

في الفتنة بالقبور:

ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، ونجا منها إلا من يرد الله فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أرباباها بدون الله، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانا، وعبدت مع الله.

وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما قال الله:( قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلَاتَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ۖ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (22). وقال غير واحد من السلف (كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام، فما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثليهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

في فتنة الغناء والمعازف:

ومن مكايد عدو الله، التي كاد بها من قلّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصيدة، والغناء بالآلاتالمحرمة، الذي يصد القلوب عن القران، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، ورقية الزنا واللواط، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه؛ فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا. سُئل الإمام مالك عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.

  • أبو حنيفة: يكره الغناء ويجعله من الذنوب، وحرم المعازف وسماعها كالمزمار والدف، ولا تقبل شهادته.
  • الشافعي: قال أن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
  • الإمام أحمد: ينبت النفاق في القلب، ويفعله الفساق.

في بيان تحريم رسول الله الصريح لآلات اللهو والمعازف: عن أبي عامر الأشعري قال: قال رسول الله (لَيكونَنَّ من أمَّتِي أقوامٌ، يَستحِلُّون الحِرَ والحريرَ، والخمرَ والمعازفَ).

في ابطال الحيل المحرمة:

من مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله الحيل، والمكر، والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرمه الله، وإسقاط ما فرضه ومضادّتَه في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمّه. فإن الرأي رأيان:

  • رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، فهو الذي اعتبره السلف وعملوا به. ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذَمُّوه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: فهذا النوع محمود يُثاب فاعله ومُعلّمه. وقال الإمام أحمد: “لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم.”
  • والتخلّص من نوع يُتَوَصَّل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه. الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي.

نوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالمًا والظالم مظلومًا، والحقِّ باطلاًوالباطل حقًّا. فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمّه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.

من تأمل الشريعة، ورُزق فيها فقه نَفْسٍ، رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم، وقابلتهم بنقيضها، وسَدّت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيل الباطل. فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيّل على الميراث بقتل مُورثه ميراثه، ونقله إلى غيره دونه؛ لما احتال عليه بالباطل. ومن ذلك: بطلان وصية الموصى له بمال، إذا قتل الموصي. ومن ذلك: ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها ترثه ما دامت في العِدة. عند طائفة. وعند آخرين ترثه وإن انقضت عدتها ما لم تتزوج. وعند طائفة: تَرِثُ وإن تزوجت.

والحيل ثلاثة أنواع:

نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى. ونوع: هو جائز مباح، لا حَرَج على فاعله، ولا على تاركه. وتَرَجُحُ فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.

ونوع: هو مُحرّم ومخادعة الله ورسوله، متضمّن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حَرّمه. وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع. فإن الحيلة لا تُذَمّ مطلقًا، ولا تحمد مطلقاً، ولفظها لا يُشعِرُ بمدح ولا ذَمّ: فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحا كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعةً وقربة كانت الحيلةُ عليه كذلك، وإن كان معصية وفسوقًا كانت الحيلة عليه كذلك.

ولما قال النبي: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل صارت في عُزف الفقهاء إذا أطلقت يُقصد بها الحيل التي يُستَحَلَّ بها المحارم، كحيل اليهود. وكل حيلة تتضمن إسقاط حق الله، أو لآدمي فهي مما يستحلُّ بها المحارم. ونظير ذلك لفظ الخداع؛ فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو ومن النوع المذموم قوله في حديث عِياض بن حمار، الذي رواه مسلم في «صحيحه»: «أهل النار خمسة …. ذكر منهم رجلًا «لا يُصبح ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك»

ومن النوع المحمود: خَدْعُ كَعْب بن الأشرف وأبي رافع عَدُوَّي رسول الله؛ حتى قُتِلا.

في فتنة عشق الصور:

وهي الفتنة التي استعبدت النفوس لغير خلاقها، وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيرت القلب للهوى أسيرا، وجعلته عليه حاكماً وأميرا، فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وصرفتها عن طريق قصدها.

وأصل كل فعل وحركة في العالم: من الحب والإرادة. فهما مبدأ الأفعال والحركات، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف، إذا قيل: أن الترك أمر وجودي كما عليه أكثر الناس، وإن قيل إنه عدمي فيكفي في عدمه عدم مقتضيه.

والتحقيق أن الترك نوعان: ترك هو أمر وجودي، وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وجودي. وترك هو عدم محض، فهذا يكفي فيه عدم المقتضي.

فانقسم الترك الى قسمين: قسم يكفي فيه عدم السبب المقتضي لوجوده. وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له من البغض والكراهة، وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كف النفس وحبسها إلا لقيام سبب من المحبة والإرادة. ويفعل كل ما يستطيع أن يجلب الذي أحبه ويبعد عنه ما كره.

 

والحركات لأمر ما لها ثلاث خصال: إرادية، طبعية، قسرية.

  • الطبعية: سببها ما في المتحرك من الميل والطلب بكماله وانتهائه، كحركة النار والنبات والرياح، وبطبعه يطلب مستقره لمركزه مالم يعقه عائق.
  • أما القسرية: فحركته بالقسر إلى العلو، فتابعة لإرادةالقاسر له، فلم تبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة، من يسعى لحصول المال من أجل الأمان وعدم الفقر، ومن يسعى للزواج من اجل ألا يقع في الحرام، ومن يسعى لحفظ القرآن لأجل اكتساب الأجر.
  • والإرادية: وحركته تكون بمحض نفسه وإرادته وفقًا لطبعه وأهدافه.

والفتنة نوعان:

  • شبهات: تكمن في ضعف البصيرة، وقلة العلم لا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول مطلوب الهوى، فهنالك المصيبة العظمى، وهذه الفتنة مدخل للكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وأهل البدع، واشتبه عليهم الحق والباطل، ودفعها يكون باليقين،والعلم، وطاعة الله، ورسوله.
  • فتنة الشهوات: هي اتباع ما اشتهى الهوى في باطله ومخالفة ما أمره الله ورسوله، ودفع هذه الفتنة بالصبر والدعاء.

-تمّ بحمدالله- 

 

 

شاركنا رأيك

اقرأ أكثر:

الصحافة في مصر أداة النهضة

كانت مصر من الدول العربية الأولى التي أدخلت الصحافة إلى نسيجها، وخلال فترة من الزمن وسلاسل من التحديات استطاعت تحويل الأداة التي جاء بها المستعمر...

عراقيات: ليلةُ سائق

كسائقٍ سابقٍ لأحدِ شركات سيارات الأجرة أستطيع أن أقولَ إني عرفتُ الكثير عن الكثيرِ ممن لا أعرفهم، لكن إن سألتني عن إن كانَ أيّ منها قد حفرَ مكانهُ في...

الروائح، شقيقةُ الشهيق

تتمشى في الأسواق التقليدية الشعبية القديمة فتجتاحُ أنفك أنواع الروائح المختلفة، من البهارات وروائح الأقمشة المنبعثة محال الخياطة، ورائحة الجلود من...

تعوّد أن لا تتعوّد

كنتُ أتصفحُ موقعاً لوصفات الأطعمة الصحية، مررتُ على وصفات تتضمن الفاصولياء الخضراء كمكوّن أساسي فيها، تفاجأت بأن هنالك أعداداً لا نهائية من الوصفات...

عراقيات: صوتُ المِروحة

ها أنا جالسة بين جمعٍ من النساء اللاتي لا أعرف الغالب منهن، علا صوت بكائهن، أكادُ أجزم بأني أسمع فقط لا أرى، لا أستطيع التركيز ولا أنوي ذلك. بين...

لماذا لا تقنعنا الحقائق؟

يقول ليو تولستوي: “يمكن شرح أصعب المسائل لأحمق الناس في حال لم يكن قد شكّل تصورًا سابقاً عنها، في حين يستحيل شرح أبسط المسائل للذكيّ المعتدّ...

%d bloggers like this:
Verified by MonsterInsights