ها أنا جالسة بين جمعٍ من النساء اللاتي لا أعرف الغالب منهن، علا صوت بكائهن، أكادُ أجزم بأني أسمع فقط لا أرى، لا أستطيع التركيز ولا أنوي ذلك.
بين دقيقة وأخرى تقترب مني امرأة قد أعرفها أو قد لا اعرفها لتحضنني حضناً سريعاً، حضن المواساة وتهمس في أذني بكلمات الصبر والتهوين.
تضطر النساء تمثيل الحزن والمبالغة فيهِ كنوع من الواجبات المفروضة عليهن تجاه الأخريات حتى يصلَ الأمر بهن لتحوليه لمنافسةً من نوعٍ ما كي تثبت لا أعرف لمن أنها مهتمة حقاً، تتطورُ المنافسةُ ببعضهن أحياناً إلى شق الملابس ولطم الرأس وبعض الحركات الغريبة الأخرى ناهيك عن الصراخ المرفق ببعض الكلمات الحزينة اللامفهومة.
حسنا.. لنعد إلي، لم أكن أعي أياً من ذلك كله، كل ما كان يشد انتباهي هو صوت مروحة السقف، لطالما أحب أبي هذه المروحة بالذات، كان يحب الصيف كثيراً، لطالما أخبرنا أنه فصلٌ مليء بالأصوات لا فصلًا هادئاً كالشتاء، أصواتُ الصيف تتيح لك اشغال بالك عن ذاتك، عن مشاكلك، هكذا كان لصوتها قدرة على جرّي من هذا الزحام الصوتي المزعج، لو أستطيع أن أكون تلك المروحة.
لرحمة الله بي انتهى ذلك اليوم، خرجت كل النساء.
الآن انتهى واجبي وأستطيع الذهاب إلى غرفتي، ذهبت لأغسل وجهي بالبداية في الحديقة، صادف خروجي دخول أخي إلى المنزل، كان وجههُ غريباً شاحباً لا يحوي لوناً، حتى أن خديهِ لم يحويا أي أثر لانحدار الدمع عليهما، اقتربت منه قليلا..
لا أعلم كيف خرج حزني المحبوس هكذا، وجدت نفسي احتضن أخي بقوة كأني أخاف فقدانه هو أيضاً، بكيتُ كأني اُخبرت أنه آخر يوم لي للبكاء.
غسلتْ الدموعُ عيناي لأرى بوضوح أن أبي لم يعد هنا، استوعب عقلي حينها.. يا ليته لم يستوعب!

مرٌ على ثالثِ يومِ عزاء لأبي شهرين، ومن يومها أنا هنا مع صوت المروحة، الصوت الوحيد الذي يستطيع تهدئتي، لا أظن أني تحدثت لأي أحد منذُ فترة، يأتي الجميع إليّ هنا، إلا إن كل ما أسمعه هو صوت المروحة وعيناي مخيطة بعقارب الساعة منتظرة مغادرتهم وتوقف كلماتهم المليئة بالشفقة والأسى المفتعل.
فقدت أبي وفقدت نفسي، لكن بقي صوت المروحة مستمراً..
