ابحث هنا

عراقيات: صوتُ المِروحة

ها أنا جالسة بين جمعٍ من النساء اللاتي لا أعرف الغالب منهن، علا صوت بكائهن، أكادُ أجزم بأني أسمع فقط لا أرى، لا أستطيع التركيز ولا أنوي ذلك.

بين دقيقة وأخرى تقترب مني امرأة قد أعرفها أو قد لا اعرفها لتحضنني حضناً سريعاً، حضن المواساة وتهمس في أذني بكلمات الصبر والتهوين.

تضطر النساء تمثيل الحزن والمبالغة فيهِ كنوع من الواجبات المفروضة عليهن تجاه الأخريات حتى يصلَ الأمر بهن لتحوليه لمنافسةً من نوعٍ ما كي تثبت لا أعرف لمن أنها مهتمة حقاً، تتطورُ المنافسةُ ببعضهن أحياناً إلى شق الملابس ولطم الرأس وبعض الحركات الغريبة الأخرى ناهيك عن الصراخ المرفق ببعض الكلمات الحزينة اللامفهومة.

حسنا.. لنعد إلي، لم أكن أعي أياً من ذلك كله، كل ما كان يشد انتباهي هو صوت مروحة السقف، لطالما أحب أبي هذه المروحة بالذات، كان يحب الصيف كثيراً، لطالما أخبرنا أنه فصلٌ مليء بالأصوات لا فصلًا هادئاً كالشتاء، أصواتُ الصيف تتيح لك اشغال بالك عن ذاتك، عن مشاكلك، هكذا كان لصوتها قدرة على جرّي من هذا الزحام الصوتي المزعج، لو أستطيع أن أكون تلك المروحة.

لرحمة الله بي انتهى ذلك اليوم، خرجت كل النساء.

الآن انتهى واجبي وأستطيع الذهاب إلى غرفتي، ذهبت لأغسل وجهي بالبداية في الحديقة، صادف خروجي دخول أخي إلى المنزل، كان وجههُ غريباً شاحباً لا يحوي لوناً، حتى أن خديهِ لم يحويا أي أثر لانحدار الدمع عليهما، اقتربت منه قليلا..

لا أعلم كيف خرج حزني المحبوس هكذا، وجدت نفسي احتضن أخي بقوة كأني أخاف فقدانه هو أيضاً، بكيتُ كأني اُخبرت أنه آخر يوم لي للبكاء.

غسلتْ الدموعُ عيناي لأرى بوضوح أن أبي لم يعد هنا، استوعب عقلي حينها.. يا ليته لم يستوعب!

مرٌ على ثالثِ يومِ عزاء لأبي شهرين، ومن يومها أنا هنا مع صوت المروحة، الصوت الوحيد الذي يستطيع تهدئتي، لا أظن أني تحدثت لأي أحد منذُ فترة، يأتي الجميع إليّ هنا، إلا إن كل ما أسمعه هو صوت المروحة وعيناي مخيطة بعقارب الساعة منتظرة مغادرتهم وتوقف كلماتهم المليئة بالشفقة والأسى المفتعل.

فقدت أبي وفقدت نفسي، لكن بقي صوت المروحة مستمراً..

شاركنا رأيك

اقرأ أكثر:

الصحافة في مصر أداة النهضة

كانت مصر من الدول العربية الأولى التي أدخلت الصحافة إلى نسيجها، وخلال فترة من الزمن وسلاسل من التحديات استطاعت تحويل الأداة التي جاء بها المستعمر...

تلخيص كتاب: إغاثة اللهفان

الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت القلب الصحيح: وهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال الله تعالى:...

عراقيات: ليلةُ سائق

كسائقٍ سابقٍ لأحدِ شركات سيارات الأجرة أستطيع أن أقولَ إني عرفتُ الكثير عن الكثيرِ ممن لا أعرفهم، لكن إن سألتني عن إن كانَ أيّ منها قد حفرَ مكانهُ في...

الروائح، شقيقةُ الشهيق

تتمشى في الأسواق التقليدية الشعبية القديمة فتجتاحُ أنفك أنواع الروائح المختلفة، من البهارات وروائح الأقمشة المنبعثة محال الخياطة، ورائحة الجلود من...

تعوّد أن لا تتعوّد

كنتُ أتصفحُ موقعاً لوصفات الأطعمة الصحية، مررتُ على وصفات تتضمن الفاصولياء الخضراء كمكوّن أساسي فيها، تفاجأت بأن هنالك أعداداً لا نهائية من الوصفات...

لماذا لا تقنعنا الحقائق؟

يقول ليو تولستوي: “يمكن شرح أصعب المسائل لأحمق الناس في حال لم يكن قد شكّل تصورًا سابقاً عنها، في حين يستحيل شرح أبسط المسائل للذكيّ المعتدّ...

%d bloggers like this:
Verified by MonsterInsights