تخيل أنك خرجت لتناول العشاء مع صديق جيد. وقدم لك النادل للتو شريحة لحم متوسطة النضج وأنت تستمع بلذة الوجبة. فيما يلي وصف قصير لما يحدث في اللحظة التي تضع فيها أول قطعة من اللحم في فمك -على الرغم من أنك قد ترغب في تجنب جعل ما يلي جزءاً من محادثة العشاء.
ما الذي يحدث داخل جهازك الهضمي ؟

حتى قبل مضغ الطعام او ابتلاعه، تمتلئ معدتك بحمض الهيدروكلوريك المركز الذي يمكن أن يكون حمضياً مثل حمض البطارية. وعندما تصل قضمات اللحم الممضوغة جزئياً إلى هناك، تمارس معدتك قوى طحن شديدة لدرجة أنها تفتت شريحة اللحم إلى جزيئات دقيقة. في هذه الأثناء، تقوم المرارة والبنكرياس بإعداد الأمعاء الدقيقة للقيام بعملها، وذلك عن طريق إفراز الصفراء للمساعدة على هضم الدهون، وإفراز مجموعة متنوعة من الإنزيمات الهضمية. وعندما تنقل معدتك جزيئات شريحة اللحم الدقيقة إلى الأمعاء الدقيقة، تقوم الإنزيمات والصفراء بتقسيمها إلى العناصر الغذائية التي يمكن للأمعاء امتصاصها ونقلها إلى بقية الجسم.
ومع تقدم عملية الهضم، تقوم عضلات جدران الأمعاء بتنفيذ نمط مميز من تقلصات العضلات تسمى الحركات الدودية، التي تحرك الطعام لأسفل وعبر الجهاز الهضمي. وفي الوقت نفسه، تنقبض أجزاء من جدران الأمعاء لتوجيه الطعام الذي يتم هضمه إلى بطانة الأمعاء الدقيقة، حيث يتم امتصاص العناصر الغذائية. وفي الأمعاء الغليظة، تقوم موجات التقلص القوية بنقل المحتويات ذهاباً وإياباً لتمكين العضو من استخراج وامتصاص 90٪ من الماء الموجود في محتويات الأمعاء. ثم تقوم موجة أخرى من الانكماش القوي بتحريك المحتويات نحو المستقيم، ما يثير عادة الحاجة إلى التغوط.
وفي الفترة بين الوجبات هناك موجة ضغط مختلفة -المجموعات الحركية المهاجرة- تعمل كمدبرة منزل لأمعائك، فتزيل أي شيء آخر لا تستطيع معدتك ان تذيبه او تفتته إلى قطع صغيرة بما فيه الكفاية مثل الأدوية غير المذابة والفول السوداني غير الممضوغ. وتنتقل هذه الموجه ببطء من المريء إلى المستقيم كل 90 دقيقة، مايولد ضغطاً كافياً لكسر الجوز البرازيلي والتخلص من الميكروبات غير المرغوب فيها من الأمعاء الدقيقة إلى القولون. وخلافاً لمنعكس الحركات الدودية، تعمل موجة التنظيف هذه فقط عندما لا يتبقى طعام لهضمه في جهازك الهضمي -عندما تكون نائماً مثلا- وتتوقف بمجرد تناول قضمة الإفطار الأولى.
يمكن لمخك العاطفي أن يعبث بكل واحدة من تلك الوظائف التي تبدو تلقائية. وإذا أخذت محادثة العشاء الخاصة بك منعطفاً خطأ ودخلت في جدال مع صديقك، يتم إيقاف نشاط طحن اللحم الرائع في معدتك بسرعة، وبدلاً من ذلك تدخل في حالة تقلصات تشنجية لم تعد تسمح لها بالتفريغ بشكل صحيح. ونصف تلك الشريحة اللذيذة التي تناولتها ستبقى في معدتك دون مزيد من الهضم. وبعد وقت طويل من مغادرة المطعم، ستظل معدتك في حالة تشنجات وتظل ساهراً. ونظراً لأن الطعام لا يزال في معدتك، فلن تحدث تقلصات التفريغ الليلي، مما يمنع التطهير المعتاد لأمعائك. يمكن لجهازك العصبي المعوي التعامل مع جميع التحديات الروتينية المتعلقة بالهضم. ومع ذلك، عندما ترى تهديداً وتشعر بالخوف أو الغضب، لا يرسل مركز المخ العاطفي تعليمات فردية إلى كل خلية في الجهاز الهضمي. وبدلاً من ذلك، ترسل الدوائر العاطفية في المخ إشارات إلى الجهاز العصبي المعوي بالتحول عن روتينه اليومي. ويعود الجهاز الهضمي مرة أخرى إلى السيطرة المحلية بمجرد زوال العاطفة.

ميكروبات في جسدك لا يمكن أن تعيش بدونها
تشكل الخلايا المناعية الموجودة في أمعائك أكبر مكون لجهاز المناعة في جسمك، أي ان هناك خلايا مناعية تعيش في جدار الامعاء اكثر من التي تدور في الدم او في النخاع العظمي. ولها سبب وجيه؟! تتعرض الامعاء للكثير من الكائنات الحية الدقيقة والفتاكة والتي من المحتمل ان تكون موجودة في طعامنا، فبالتالي؛ نظام الدفاع المناعي الموجود في الامعاء قادر على تحديد وتدمير اي نوع من البكتيريا الخطيرة التي تصل لجهازنا الهضمي إذا ما تناولنا طعام او ماء ملوث. الاكثر روعة في هذي العملية ان هذا الجهاز المناعي ينجز هذي المهمة بحيث يستطيع ان يتعرف على عدد ضئيل من البكتيريا المميتة من بين الترليونات النافعة.
توجد في الامعاء ميكروبات نافعة، تسمى «ميكروبيوتا الأمعاء» التي تتكون من بكتيريا، فطريات، فيروسات، وعتائق. وعددها اكثر من عدد البشر بمئة ألف ضعف، قد تتسائل ماهي مهمتها؟ “ميكروبيوتا الأمعاء” لها اثار كبيرة على الصحة، فهي تساعد الامعاء على التعامل مع مكونات الطعام التي لا تسطيع امعائنا التعامل معها، وتزيل وتعالج السموم من المواد الكيميائية الخطرة التي نبتلعها في طعامنا، وتدرب ايضا جهازنا المناعي، كما انها تمنع غزو او نمو مسببات الامراض الخطيرة.الا ان الاضطربات او التغيرات التي تحدث فيها ترتبط بمجموعة من الامراض مثل: الاسهال المرتبط بالمضادات الحيوية، الربو، وتلعب دور في اضطرابات طيف التوحد، وتلعب دور في مرض باركنسون. وتختلف تنوع ووفرة هذه -الميكروبات المعوية- على طول مدى حياة الفرد، فهي منخفظة خلال السنوات الثلاث الاولى من حياتنا وتصل للحد الاقصى خلال مرحلة البلوغ، وتنخفض مع التقدم في السن. وهي تختلف من شخص لاخر، فهي لا تتشابة بين شخصين من حيث السلالات والانواع العديدة من الميكروبات الي تحتوي عليها. وتعتمد هذه الميكروبات الموجودة في أمعائك في تشكيلها على جيناتك، والبكتيريا الخاصة بأمك -والتي نأخذها جميعا لحد ما- ونظامك الغذائي، ونشاط مخك وحالتك الذهنية وميكروبات افراد اسرتك ايضا.

يعد التنوع الميكروبي المعوي مهم لصحة الامعاء، والاختلال سبب لبعض الامراض، ومن اسباب اختلالها التغييرات في نمط حياتنا، ونظامنا الغذائي، الاستخدام واسع النطاق للمضادات الحيوية. وفي حال اختلت هذه التركيبة فالطريقة الوحيدة المتاحة حالياً لاستعادة تنوع الميكروبات المعوية لدى المرضى هي نقل الميكروبيوتا السليمة من براز المتبرع السليم إلى امعاء المريض المصاب. ينتج عن هذا العلاج الذي يعرف بزراعة الميكروبات البرازية، إعادة تكوين إعجازية تقريباً للمكونات الميكروبية لدى المريض. من كان يعتقد في أي وقت مضى أن مجرد نقل حبيبات البراز التي تحتوي على ميكروبات الأمعاء من فأر “منفتح”، يمكن أن يغير سلوك فأرة “خجولة”، ما يجعلها تتصرف مثل الفأر المتبرع؟ أو أن القيام بتجربة مماثلة لزرع البراز وميكروباته من فأرة بدينة ذات شهية شرهة ستحول الفأر النحيف إلى الحيوان نفسه المفرط في تناول الطعام؟ أو أن تناول الإناث الأصحاء زبادي غنياً بالبروبيوتيك لمدة أربعة أسابيع يمكن أن يقلل من استجابة مخاخهن للمنبهات العاطفية السلبية؟
ما الذي تفعلة الميكروبات المعوية في جسدك؟
الغالبية العظمى من الميكروبات المعوية ليست فقط غير ضارة، ولكنها في الواقع مفيدة لصحتنا ورفاهيتنا. ويشير إليها العلماء بمسمى “المتكافلات” او “المتعايشات”. فهي تحصل على العناصر الغذائية من مضيفيها، وفي المقابل تساعد في الحفاظ على توازن الأمعاء والدفاع عنها ضد المتسللين. لكن هناك عدداً صغيراً من الميكروبات التي يُحتمل أن تكون ضارة، وتسمى “الميكروبات الممرضة”، الموجودة في أمعائك ايضاً. وفي ظل ظروف معينة يمكن لهذه الميكروبات -غير الموثوق بها- أن تحول أسلحتها ضدنا. تحتوي “الميكروبات الممرضة” على ادوات جزيئية تعمل كمدفعية لمهاجمة بطانة الأمعاء، ما يتسبب في التهاب البطانة أو القرحة. ويمكن أن يكون هذا التغيير في الولاء نتيجة للتغيرات في النظام الغذائي أو العلاج بالمضادات الحيوية أو الإجهاد الشديد، ويؤدي الى تراكم غير طبيعي أو زيادة في ضراوة بعض مجموعات البكتيريا، ومن ثم تحويل “المتكافلات” السابقة الى “ميكروبات ممرضة”.
لكن نادراً ما تلجأ ميكروبات الأمعاء البشرية إلى مثل هذه الأساليب العدوانية. وبدلاً من ذلك، فإنها عادة ما تعيش في وئام معنا، وتهتم بشئونها الخاصة والتي تشمل الهضم والنمو والتكاثر. ولا يصوب جهاز المناعة لدينا أسلحته الهائلة نحو “الميكروبيوتا المعوية”. السبب في ذلك بسيط جداً وهو أن التكاليف التي سيتكبدها كلا الجانبين تفوق الفوائد بشكل كبير. وبدلاً من ذلك، يقدم كلا الجانبين خدمات للطرف الآخر. تكتسب الميكروبات القدرة على عيش حياة مميزة في أمعائنا، مصحوبة بإمدادات مستمرة من الطعام ودرجات حرارة معتدلة وتنقل مجاني غير محدود. كما تكتسب ايضا اتصالاً مستمراً للمعلومات التي تنقل عن طريق الهرمونات، والنبضات العصبية، وإشارات كيميائية اخرى. وتسمح لها هذه المعلومات بتتبع حالاتنا العاطفية، ومستويات التوتر لدينا، سواء كنا نائمين أو مستيقظين، والظروف البيئية التي نتعرض لها. ويساعد الوصول الى هذه المعلومات الميكروبات على تعديل إنتاج مستقلباتها؛ ليس فقط لضمان ظروف معيشية مثالية لأنفسها، ولكن ايضاً للحفاظ على الانسجام مع بيئتنا المعوية. وفي المقابل، تزودنا الميكروبات بالفيتامينات الأساسية، وتستقلب المركبات الهضمية تسمى “الاحماض الصفراوية” التي ينتجها الكبد، وتزيل السموم من المواد الكيميائية الغريبة التي لم تشهدها اجسامنا قط -مايسمى الاجسام الحيوية الدخيلة-. الاهم من ذلك كله أنها تهضم الألياف الغذائية وجزيئات السكر المعقدة التي لا يستطيع جهازنا الهضمي تحليلها او امتصاصها وحده، ومن ثم تزودنا بعدد كبير من السعرات الحرارية الإضافية التي نفقدها في البراز. إنه عقد قديم ملزم يعمل كمعاهدة سلام واتفاقية تجارية، ما يضمن فوائد متبادلة كبيرة لجميع الأطراف.
تشارك ميكروباتك المعوية في محادثات مستمرة مع الجهاز الهضمي، وجهاز المناعة، الجهاز العصبي المعوي، ومخك. وكما هي الحال مع اية علاقة تعاونية يعد التواصل الصحي ضرورياً. وتظهر الأبحاث الحديثة أن اضطراب هذه المحادثات يمكن أن يؤدي إلى أمراض الجهاز الهضمي، بما في ذلك أمراض الالتهاب المعوي، والإسهال المرتبط بالمضادات الحيوية، والسمنة، مع جميع عواقبها الضارة، وقد تشارك في اكتساب العديد من أمراض المخ الخطيرة، بما في ذلك الاكتئاب، ومرض الزهايمر، والتوحد.
دور الميكروبات المهبلية في تشكيل ميكروباتنا المعوية
في حالات الحمل الصحي، تنتقل بكتيريا الأم المعوية -معظمها مفيد- في دم الحبل السري، والمشيمة، و”السائل الأمينوسي” -هو سائل غذائي ويُوفر الحماية للجنين يُوجد داخل الكيس الأمنيوتي في رحم المرأة-، السائل العقي. ومع اقتراب موعد الولادة، تتغير “الميكروبيوتا المهبلية” كثيراً. ينخفض تنوع الأنواع الميكروبية، وأثناء الولادة يتعرض الطفل المولود بشكل طبيعي لميكروبيوتا الأم المهبلية، ما يوفر مصدراً رئيسياً للميكروبات لاستعمار أمعاء الرضيع. وبهذه الطريقة، شكلت مجموعة والدتك المميزة من الميكروبات المهبلية الأساس لنمطك المميز من الميكروبات المعوية، وستظل كذلك طوال حياتك. كما تزود ميكروبات الأم حديثي الولادة بقطعة رئيسية من الآت التمثيل الغذائي، ما يمنح الطفل القدرة على هضم سكر الحليب والكربوهيدات الخاصة في حليب الأم.

ونظراً لأن الميكروبات المهبلية يمكن أن تؤدي إلى بداية معوية صحية لدى حديثي الولادة، فإن العلماء يدسون الآن ما إذا كانت الولادة القيصيرية تعرض صحة المخ المستقبلية لحديثي الولادة للخطر. ونحن نعلم حتى الآن أن أمعاء الرضع المولودين قيصيرياً لا يتم استعمارها بواسطة الميكروبات المهبلية للأم، ولكن بواسطة ميكروبات من جلد الأم، والقابلات، والأطباء، والممرضات، ومن المواليد الآخرين في جناح الولادة، وتستغرق هذه البكتيريا المفيدة وقتاً اطول لاستعمار أمعائهم مما تفعله مع أمعاء الأطفال الذين يولدون عن طريق المهبل. ونحن نعلم ان على الارجح ان ينمو ميكروب الامعاء الخطير “كلوستريديوم ديفيسيل” او -المطثية العسيرة- بصورة هائلة في الأمعاء ويؤذي أطفال الولادة القيصيرية، وأن اطفال الولادة القيصيرية اكثر عرضة للإصابة بالسمنة مع تقدمهم في السن. ويشتبه العلماء في ان الولادة القيصيرية قد تجعل الطفل ايضا اكثر عرضة لتغيرات في اتصال الأمعاء والمخ واضطرابات المخ الخطيرة، بما في ذلك مرض التوحد، وهناك العديد من الدراسات جارية لمعرفة ذلك على وجه اليقين.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم