مقال لأندريه سوليفان نُشرت لأول مرة على نيويورك تايمز في التاسع عشر من سبتمبر عام ٢٠١٦ وقمنا بترجمتها وإليك أبرز ما ورد فيها:
- بداية انفصاله عن عالم الإدمان
- إدمانه للانترنت
- القشة التي قصمت ظهره
- قراره العيش عيشة حقيقة
- رحلته للتشافي وممارسة التأمل
- أثر الحداثة الغربية على السلوكيات المعاصرة
مقالات ذات صلة:
ألفتُ طبيعتي البشرية
قصف من وابل الصور والقيل والقال والأخبار السرمدي جعلنا كهشيمٍ مدمنٍ للإعلام المجنون.. أمسيت ضحيته، وقد يأتي دورك أيضا.
اللوحة الزيتية الأصلية للمتجول فوق بحر الضباب للرسام دايفد فريدرتش (١٨١٨) بتعديل كيم دونق كيو
كنت جالسا في صالة فسيحة في دار رهبانية وسط ماساتشوستس معدة لممارسة التأمل حين هممت بإخراج الآيفون الخاص بي، وإذا بامرأة في غرة الصالة تحمل بيديها سلة، وأثر البهجة على محياها، كقسٍّ يجمع التبرعات. عندئذٍ شعرت بما يجب علي فعله، فذهبت وسلمتها جهازي الصغير، ثم استشعرت وكأن قارعةً حلت وأنا في طريق العودة إلى مقعدي. لو لم تحدث لكل أحدٍ كان يحدق بي، ربما كنت سأتراجع عن فعلتي وأستأذن لاستعادته، لكنني لم أفعل، لأني أعلم يقينا لم جئت إلى هنا.
قبل عام منصرم، وكأي مدمن، استشعرتُ أنني على أعتاب الاصطدام بحائط مع أزمة شخصية. لعقدٍ ونصف، كنت منغمساً بالشبكة العنكبوتية، أقوم بنشر منشورات عديدة لمدة أربعة وعشرين ساعة، سبعة أيام في الأسبوع، وقد وصل بي الحال لإنشاء فريق ينعش الشبكة العنكبوتية كل ٢٠ دقيقة خلال ساعات الذروة. يبدأ كل صباح بانغماس كامل في الأخبار وتيارات الحياة الافتراضية، كنت أتجول من صفحة إلى صفحة، ومن تغريدة إلى تغريدة، ومن أخبار حصرية إلى أكثر الأحاديث إثارة للجدل، أخطف بناظري صورا وفيديوهات لا حصر لها، أتابع ما استجد من الميمات المنتثرة هنا وهناك. وعلى مدار اليوم قد تخرج مني فكرة أو جدال أو نكتة أعلق بها على ما حدث أو ما يجري في الآونة الأخيرة. ومع الوقت وتتابع الأحداث كنت أقضي أسابيعا ألملم شظايا الأحداث المتناثرة في تطورات قصة لأجمعها في سرد روائي. وأقيم حوارًا سرمديًا مع القراء الذين يهتفون حينًا وتعلو أصواتهم بصيحات الاستهجان حينًا آخر. لم يسبق لعقلي أن إنهمك بنحو شديد وظاهر في مواضيع مختلفة كهذهِ من قبل.
بعبارة أخرى، كنت من أوائل الذين انغمسوا بالحياة الشبكية. وعاما بعد آخر، أدرك أنني لست الوحيد. فعندما أتت منصة الفيسبوك أتاحت لكل شخص بما يُشبه المدونة والجمهور الخاصة به. ومع الوقت أصبحت الهواتف الذكية تتزايد في أيدي الناس – تلك التي تغمر مستخدميها بطوفان محتواها المثير الغامر، تقحمهم على ولوج السيل الرقمي وشرب ماءه وما إن يلبث قليلاً حتى يمتلك حواسهم بلا هوادة سيان ما حدث معي. ظهر بعدها تويتر كنوع سريع من التدوين للأفكار الجزئية. يكثر مستخدميهُ التفاعل بالرد كما كنت أفعل لفترة طويلة – أو ربما كنت أشد منهم. ثم ظهرت تطبيقات الجوال وتضاعفت كتضاعف حبيبات المطر لتغرق المتبقي من سطح أوقاتنا الفارغة. تفشى أسلوب الحياة الافتراضي ولم ينجلِ يومًا بل أستحدث مرارًا وتكرارًا. أتذكر عندما قررت أن أجدد مدونتي في ٢٠١٧ وأحدثها كل نصف ساعة أو نحوها، نظر إلي المدقق نظرة متربصٍ بجنون حل بي. لكن الجنون يعد شيئا تافها في هذا الوقت؛ حيث أن الوتيرة الخيالية للمدوّن المحترف بالأمس أصبح اليوم الخيار الافتراضي للجميع.
اعتدت على قول هذه الدعابة: لو أن الشبكة العنكبوتية تقتل أحداً، لغديت أول ضحاياها. وبعد مرور سنين، حلت بي دعابتي، ففي آخر سنة من حياتي التدوينية، شح عطاء صحتي البدنية. فخلال ١٢ شهر أُصبت بأربعة التهابات قصبية مما استعسر شفائي منها. أما العطلات، فقد كانت مجرد فرص لأخذ قسط من النوم. كانت أحلامي عبارة عن لمحات للشفرات التي أستخدمها كل يوم لتحديث الموقع. ضمرت صداقاتي بتضاؤل وقتي بعيدًا عن الشبكة العنكبوتية. وذات مرة عندما صرف لي طبيبي المضادات الحيوية لمرة ثانية مازحني قائلا: أتخطيت من الإيدز لتقع طريح الشبكة العنكبوتية؟
حاولت أن أقرأ الكتب، لكن تلك المهارة بدت بعيدة المنال عني. فبعد قراءة صفحتين، قفزت أصابعي إلى لوحة المفاتيح. جربت التأمل، لكن ذهني بدا مضطربا شاردا كلما أحكمت قبضته. بدأت أعتاد على ممارسة تمارين يومية، لكن ما أجده منها كان مجرد ترويحة ساعة في اليوم أو نحوها. ومع مرور عقارب وقت هذا العالم الافتراضي المتوسع، ازداد ضجيج الانترنت وتعالى صخبها. كنت أقضي ساعات يومياً وحيداً وصامت، لا أنفك عن حاسوبي المحمول، إلا أني أشعر كما لو كنت في ضجيج نشازي مضطرد من الصور والفيديوهات والأصوات والأفكار والعواطف والخطابات العنيفة — بوابة لعاصفةٍ تصم الأذان، لصخبٍ مصمِت. الكثير منها لا يمكن مقاومته، كما تيقنت ذلك بشكل واضح. كما عرفت أيضا أن الإفراط في التقنية يؤول إلى إدمان لا متناهي. كنت أخشى طريقة العيش الافتراضية الحتمية هذهِ لأنها عيشةً لا حياة فيها ولا روح.
لكن عائدات الانغماس كثرت؛ ففي كل يوم نقوم بجذب ما يصل إلى ١٠٠،٠٠٠ من الجمهور؛ وذلك يرجع إلى سوق الأعمال التجارية في الإعلام الحديث التي أصبحت جليا مربحة؛ وهو ما يتمثل في تيار مطرد من الأمور التي قد تزعجني أو تنيرني أو تغضبني؛ لاحتلالها مركزيةً في عصب المحادثات الحامية في العالم؛ وطريقة لقياس مدى النجاح — في كم كبير من البيانات الهائلة والرائعة — مما يفرز دوبامينا مستمرا للذات الكتابية. إن كنت تريد أن تصنع من نفسك كاتبا في عصر الإنترنت، فأنا أرشدك إلى سلوك نفس الطريق الذي سلكته، ستراني عندئذٍ واصلا إلى القمة. لولا أن معضلتي كانت في كيفية إعادة صنع نفسي كإنسانٍ طبيعي.
في الشهور الأخيرة، أدركت أنني أزاول حياتي — كأي مدمن — في نوع من الانفصال الجسدي والروحي. كنت أتعامل مع حياتي الشبكية كمكمل إضافي لحياتي الواقعية. نعم، كانت تمضي ساعات طويلة أتصل فيها مع الآخرين بصوتٍ بلا جسد، وإن كان جسدي موجود في الواقع. لكني أدركت شيئا، حينما تدهورت صحتي وسعادتي، أن الحياة الافتراضية والواقعية لا يمكن أن تكونا حياةً تكاملية، بل هو اختيار واحد منهما للعيش. كل ساعة أقضيها في عالم الإنترنت لا أقضيها في العالم الحسي. كل دقيقة أكون منغمسا في تفاعل افتراضي لا أعيشه في تفاعل بشري. كل ثانية أعيشها بتفاهة هي ثانية ضائعة من أي نوع من التفكر أو الطمأنينة أو الروحانية. أما عن مهارة تعدد المهام، كانت مجرد سراب؛ لأنني كنت إما أن أعيش كصوت في العالم الافتراضي، أو كبشري يعيش في عالمٍ منذ ابتداء الخليقة.
وهكذا، قررت بعد ١٥ سنة أن أعيش في عالم الواقع.
الصورة بإذن من مكتبة فولجر شكسبير
منذ اختراع آلة الطباعة، كان كل تقدمٍ في تقنية المعلومات يُأجج مخاوف كبيرة. بدأتْ بالتخوف من سهولة الوصول إلى الكتاب المقدس بالنسخة الإنجليزية الدارجة الذي كان من الممكن أن يلوّث العقيدة المسيحية ويؤول بها إلى مستنقع الاستقباح، في خمسينيات القرن الماضي، وفي الوسط الهمجي الشبابي ضد التلفاز، كانت تقوم الانتقادات الثقافية بالنياحة والصراخ في وجه كل مستجد من هذه الأحداث. فكل تحوّلٍ يفضي إلى مزيدٍ من تشتت الانتباه — يتلو ذلك الاختراع السالف الساحر للتلفاز السلكي الملون في عشرينيات القرن الماضي والفضاءات المتضخمة الدائبة المستديمة للشبكة العنكبوتية، ولا يزال المجتمع يعمل ليتبنّى ويكيّف بدون ضررٍ جليّ وبعضه يمثل قفزة في التقدم. لذا ربما من السهل أن نبصر هذا الإلهاء الجماعي في العصر الحديث بمنظارٍ مستقبلي بائس.
ولكن من المؤكد أن هذا العصر يمثل قفزة حضارية عالية حتى عن الماضي القريب. لازلت تقف متحيرا أمام عالم البيانات الرقمي. كل دقيقة على هذا الكوكب يقوم مستخدمو اليوتيوب بتحميل ٤٠٠ ساعة من الفيديوهات. كل يوم يتم وضع مليارات “الإعجابات” على الفيسبوك حرفيا. تقوم وسائل الإعلام الإلكترونية بنشر متزايد أكثر من ذي قبل، وتطلق المقالات كالقذائف المستعجلة، مضيفة تفاصيل جديدة إلى الأخبار كل عدة دقائق. والمدونات، وصفحات الفيسبوك، وحسابات تمبلر، والتغريدات، ومواقع الدعايات المستخدمة مرارا التي تقتبس وتضيف لمسات محورية لنفس المنتجات.
تشرّبنا لهذا “المحتوى” (المكتوب أو المتمثل بمقطع فيديو أو بصورة كما يدعى حاليا) لم يعد مورده الأساسي المجلات والوثائق، أو عن وضع إشارة مرجعيّة على مواقعنا المفضلة، أو من طريق الاختيار الفعّال للقراءة أو المشاهدة، بل وجهونا نحو عدة تفاصيل صغيرة مشتتة لا حصر لها في وسائل التواصل الاجتماعي نستقي منها المعلومات، وتتعاقب علينا مصممةً بدقة فردية. دعونا لا نجامل أنفسنا بأننا نستطيع التحكم بما يشدنا وراء ضغط الأزرار. فلقد قام تقنيُّو وادي السيليكون بخوارزميات مبهرة اكتشفوا فيها نوع الطُعم الذي يشدك كسمكة صغيرة إليها. لم يسبق أن وُجدت تقنية معلومات لديها معرفة عميقة لعملائها مثل ما لديهم— أو قدرة هائلة على التحكم بشبكاتهم العصبية وابقائهم مولعين بها.
ولا ينتهي الافتتان بها أبدا. فمنذ زمن ليس ببعيد أصبح تصفح الشبكة العنكبوتية نشاطا عرفيّاً، سواءً زاد إدمان الفرد لها أو قل. في مكتب العمل، أو في منزلك برفقة حاسوبك المحمول، تختفي في جحر مليء بالروابط ثم تعاود الظهور بعد دقائق (أو بعد ساعات) لتواجه العالم الحقيقي. ثم بعدئذ، صيّرت الهواتف الذكية الجحر الثابت إلى جحر قابل للتنقل، وكأنه يدعونا إلى التيه في أي مكان وأي زمان وأثناء أي شيء نفعله حينها. لتتخلل المعلومات كل دقيقة يقظة من حياتنا.
حدث هذا بأعجوبة سريعة. نكاد لا نذكر أن قبل عشرة أعوام لم يكن هناك هواتف ذكية، وما إن حل ٢٠١١ حتى امتلك ثلث الأمريكيون واحدا منها. وأما الآن، فحوالي ثلثي الأمريكيين يمتلكونها. إن تلك النسبة تصل إلى ٨٥ بالمئة عند عد الشباب اليافعين فقط. ٤٦ بالمئة من الأمريكيين أفادوا مستطلعي بيو في العام الماضي أمرا بسيطا لكنه ذو معنى عميق: إنهم لا يستطيعون العيش بدون الهواتف الذكية. لقد تحولت من شيء غير مذكور إلى شيء لا يمكن الاستغناء عنه في أقل من عقد. حتى الأماكن التي لا تصل إليها أبراج الاتصالات والتي تعد على الأصابع — مثل الطيارات والأنفاق والبراري — بدأت تتقلص سريعا. كذلك حقائب المتسلقين أصبحت الآن تتناسب مع الشاحن المتنقل للهواتف الذكية. ويبدو أن المسافة الآمنة الوحيدة التي لا زالت موجودة هي تحت صنبور الاستحمام.
أوَ أبالغ؟ هناك دراسة قصيرة لكنها مثرية في عام ٢٠١٥ وجهت إلى شباب يافعين أثبتت أنهم يستخدمون هواتفهم لخمس ساعات يوميا في ٨٥ وقتٍ متفرق. أغلب هذه الأوقات حصيلتها أقل من ٣٠ ثانية متراكمة. لأكشف بعض التفاصيل: لم يتبين للمستخدمين مدى إدمانهم. إذ يقيسون استخدامهم لها بنصف استخدامهم الحقيقي. لكن سواء كانوا واعين بذلك أم لا، فالتقنية الحديثة قد أخلت التحكم بما يقارب ثلث أوقات هؤلاء الشباب.
غالبا تكون هذه التقطيعات لذيذة، ولم لا، لأنها مرتبطة بوقتك مع أصدقائك. تشتت عقلك مرتبط بأُناسٍ تعرفهم (أو تعتقد أنك تعرفهم)، وهنا يكمن دهاء مواقع التواصل الاجتماعي بين الأقران. فمنذ نشأة الخليقة ومعظم الناس يهتمون اهتمامًا بالغًا للقيل والقال وقد يُعزى ذلك إلى كون الفرد بحاجة إلمامه بأخبار أصدقائه وأهلهِ وما امتدت به علاقاته الاجتماعية. ويشبه إدمان المعلومات إدمان السكريات، حيث يمكننا الوصول إلى الأخبار بنفس الطريقة التي منحتها الحداثة للوصول للسكر مع عدم كبح شراهتنا نحوها. ذكرت مجلة أتلانتك مؤخرا أن المراهق الذي يستخدم برنامج السنابشات استخداما عاديا يتبادل في أي مكان ما يقارب ١٠،٠٠٠ وحتى ٤٠٠،٠٠٠ لقطة مع أصدقائه. وكلما زادت اللقطات زادت النقاط التي تظهر على صفحته وتزيد من جاذبيته الشعبية ومكانته الاجتماعية في البرنامج. ويستشهد علم النفس التطوري أن هذا الأمر فتاك بالفعل. لأن توفر مصدر دائم للمعلومات والأخبار والقيل والقال عنا وبيننا – وبثها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي – يوّلد شعورًا بالعجز.
فقط أنظر حولك — إلى المنكبين على هواتفهم وهم يعبرون الطرق، أو يقودون سيارتهم، أو في تجولهم مع حيواناتهم الأليفة، أو مع ملاعبتهم أطفالهم. أنظر إلى نفسك في طابور انتظار القهوة، أو أثناء استراحة العمل، أو أثناء القيادة، أو حتى في دورة المياه. قم بزيارة المطار وانظر إلى الرقاب المكدّسة والأعين المسبوهة. انكسرت تلك الأعين المتطلعة إلى ما حولها سرمديا للأسفل.
لو أن فضائيا قد زار أمريكا منذ خمس سنوات مضت، ثم أعاد الزيارة مرة أخرى، ألن يلاحظ ذلك فورًا؟ هذه المخلوقات قد ابتدعت لها عادة جديدة — في كل رقعة تراها، تعيش في عبودية دائمة لها؟
ذهبت للاعتكاف في مركز التأمل بعد عدة أشهر من إقلاعي عن الشبكة العنكبوتية، ضاربا بحياتي ومهنتي عرض الحائط. اعتقدت أني سأتعافى من مرضي هكذا بصورة نهائية. ولم أكن مخطئا. فبعد عدة ساعات من الصمت، يحسب المرء أن صمتهُ لن يستمر وسيهزهُ تشوش متوقع. نحو شيء يجذب انتباهِه بغتة. لكنه لم يحدث هناك على الإطلاق. إن كل من يتزين بالهدوء تعلوه سمة غالبة. هنا، لا أحد يتكلم؛ لا أحد ينظر في عين الآخر، هذا ما يسميه البوذيون بالهدوء النبيل. كانت أيامنا في المركز مجدولة دقيقة بدقيقة، معظم الوقت نقضيه تأملاً بإغماض العينين أو مشاة مشيًا بطيئًا في مسارات الغابة المعلّمة أو في تجمع لوجبات صامتة. الكلمات الوحيدة التي قرأتها خلال عشرة أيام كانت فقط في الجلسات الإرشادية التي هي عبارة عن ثلاث جلسات استشارية وجلستين للتفكر ومحادثات ليلية عن التركيز الذهني.
أود لو كنت قضيت التسعة أشهر الماضية في صقل ممارسة التأمل، ولكن في هذا الحشد، فأنا مجرد سائح مبتدئ في هذا العالم. (كان من حولي يقوم بحضور جلسات لستة أسابيع أو ثلاثة أشهر) يتضح لي أنهم اعتادوا الصمت وأصبح جزء لا يتجزأ من حياتهم–وذلك ببساطة حركتهم، وطريقتهم الزلقة في المشي، والتعبيرات الشرحة على وجوههم، كل هذا كان يأخذ بلبّي. يا ترى هل ما مارسوه كان ضربا من ضروب الملل؟
كيف كانت هالة صمتهم تتسع رقعته عندما يحيطون بي في كل يوم؟ فبخلاف تلك العادة، أنه كلما زاد عدد الأشخاص في غرفة ما علا الضجيج، هنا يختلف الأمر،هنا فالصمت يطبق بعضه بعضا. حينما كنت ملتصقا بهاتفي، كان الضجيج السمعي والبصري يلاحقني بصيّب سرمدي من الكلمات والصور، فأكون كالمستمتع المنعزل بضجيجه. من بين أولئك الذين يتأملون كنت الوحيد الذي يشعر بصمت وظلام، لكنني معهم تقريبًا بشعور الوحدة. حيث تباطأ نفسي. وسكن عقلي. وبدأت أحس بجسدي أكثر، أشعر به حين يهضم ويستنشق، وحساسيته ونبضه. أما عقلي فقرب من البعيد المجرد إلى القريب الملموس.
وكانت الأشياء التي لا ألقي لها بالًا تشدني الآن. في نزهة تأملية في الغابة من يومي الثاني، لم يلفت انتباهي بروز ضوء الخريف على الأوراق وحسب، بل شدتني تلك البقع الملونة على الأوراق الساقطة حديثًا، وذلك النسيج من الحزاز النائم على لحاء الشجر، والانسيابية التي تلاحمت بها جذوع الشجر مع الجدران الصخرية العتيقة. واتتني نشوة عارمة لألتقط لها صورا بهاتفي، لكنها ضمرت حينما فتحت محفظتي الفارغة.
لوحة توماس ر. كورتين لخريف شجر القضبان
ثم نظرت لبرهة، وفي لحظة ما، أدركت أني أضعت الطريق وتحتّم علي أن أعتمد على إحساسي بالاتجاهات. استمعت إلى زقزقة العصافير لأول مرة منذ سنين. حسنا، بالطبع أني أستمع لها دائما ولكن منذ فترة لم أنصت لها أنصت لها بحضور قلبي وعقلي.
كان هدفي أن أضبط تفكيري. قال لي صديقي سام هاري الذي يمارس التأمل “تذكر، إذا كنت تعاني فأنت تفكر.” كان علي ألا أُسكت كل شيء في عقلي المشوّش بل أن أوجهه ليَسكُن، نحو التصور الصحيح، أن أريحه قليلا ليحيا وتحيا معه روحي من جديد.
انطوى ذهني عن عالم الأخبار والتنافس المشتعل الأزلي. وبدأت أعي أمورا جديدة مع مرور الزمن: لا شيء يستحق التنافس عليه، لا شيء نخاف ضياعه منا، لا ضجر يتفجر ونريد أن نفرّ منه. كلما أشاهد رفقتي الذين يمارسون التفكر يحومون حولي سَرِحين بأعينهم المفتوحة، أشعر ببطء دقات الساعة، وبإبرة التخدير التي ضربتنا بها الحداثة وأدخلتنا حلقة مفرغة حتى الموت. شعرت أننا في مبارزة للحرية التي عرفها الكائن البشري وتواري ثقافتنا في دروب النسيان.
كلنا نعي مباهج عالمنا السلكي — الاتصالات والصلاحيات الممتدة والقهقهات وما نغنمه من المعلومات. فلا أقصد إجحاف أي منها. ولكني أحاول جذب الضوء إلى ما الذي ندفع ثمنه، إن كنا مؤمنين بوجود شيء ندفع ثمنه أصلا. الوكر الخفي في هذه التقنية يكمن في أنها تُهدهدنُا وتجعلنا مرتاحين لها غاضين الطرف عن شرها الكامن. إنها جرعة زائدة من كل شيء. فالحياة الشبكية تربعت على عرش الحياة الواقعية. فنحن نستطيع أن نلتقي بشخص بعد أن نراسله. ونستطيع أن نأكل سويا بينما نرد على رسائلنا. ونستطيع أن نحول حياتنا إلى ما يسميه الكاتب شيري توركل بـ “الحياة الممتزجة.”
وبالفعل؛ خلال فترة تدويني، تبين لي أن الأسرة التي تجتمعُ على الأكل ويستخدمون هواتفهم في الآن ذاته بأنهم غير حاضرين معًا في الحياة الواقعية. هم في معادلة شيري تركل “وحيدون سويا.” فأنت يا إنسان موجود حيثما تضع تركيزك. فإذا كنت تشاهد مباراة كرة قدم مع ابنك وتراسل شخصا آخر في نفس الوقت، فأنت لست مع ابنك كليا — وابنك يعلم ذلك. إنك إن كنت مع شخص ما فيعني ذلك أنك برفقته عمليا من خلال إشارات لا حصر لها من البصر والسمع ولغة الجسد والتناسب والتفاعل، ولكلٍ فروقٌ دقيقة قد لا تَعِيها، تلك هي مهاراتنا الاجتماعية الكامنة التي صُقلت على مدى دهور، وهي ما تميزنا كبشر.
فبينما نُسرع في استبدال الواقع الافتراضي بالواقع الحسي، نقوم بتقليص نطاق التفاعل الحي ونضاعف أرقام الناس الذين نتفاعل معهم افتراضيا. نحن نمحو أو ننقح تنقيحا شاملا كل المعلومات التي نستطيع حصدها أثناء كوننا مع شخص ثانٍ. لكننا نقلصها في كيانٍ آخر — مثل “صديق” في الفيسبوك، أو صورة في الإنستغرام، أو رسالة نصية — في عالم منظم ومعزول، خالٍ من الاندعلات المفاجئة وأعباء التواصل المباشر مع البشر.
لا عجب في تفضيلنا للبرامج، بتمريرة واحدة يستجيب لك العالم أجمع. نخفي تحت ستارها نقاط ضعفنا، ونسدله على ما نشاء من عيوبنا وعاداتنا الغريبة، ننسج أوهامنا من خيوط صورها المعروضة علينا. فلا زالت مشاعر الرفض تلسع — ولكنها تكون أقل ألما عندما يلمح لنا نظير وهمي في الأفق.
أما عن ضمور مهاراتنا البشرية القديمة، على سبيل المثال جهاز تحديد الاتجاهات. فهو منحة ربانية لنجد طريقنا إلى الأماكن التي لا نعرفها. ولكن كما أشار نيكولاس كار، أنها أدت بنا إلى عدم النظر في الأماكن، وعدم تذكرنا لها مرة أخرى، بتفاصيلها البيئية، حتى أنها أدت إلى انتكاس ذاكرتنا التراكمية التي تعطينا حسا للمكان وتولي زمام ما نسميه بالحياة الطبيعية. قام الكاتب ماثيو كراوفورد باختبار كيفية مساهمة المعالجة الآلية والحياة مع الشبكة العنكبوتية مساهمة فارقة في اضمحلال عدد الصُنّاع واعتمادهم في صنعتهم على جوارحهم، يستخدمون أيديهم وأعينهم وأجسادهم لصناعة كرسي خشبي أو قطعة من الثياب. أصبحنا مخلوقاتٍ تجيد صنع آلاتٍ معيشية امتدادية متطورة لكامل أجسادها وعقولها. فما يبدو أنه مضجر ومكرر فعله يتطور ليصبح مهارة — والمهارة هي ما تمنح البشر الثقة والاحترام المتبادل.
إسكافي مع طفلين.رسمت سنة (١٩٠٠)للرسام الأنجليزي ماركوليام لانجلوا ( ١٨٤٨-١٩٢٤).
صحيح أن الشبكة العنكبوتية والأدوات الآلية تجعلان الحياة عملية أكثر واقتصاديّة. إذ تلغيان الرتابة والوقت “المضيّع” في تحقيق الأهداف العملية. لكنها لا تجعلنا راضين عن ذاتنا ولا مكللين بفخر الصنعة حين ننجز مهماتنا اليومية على أكمل وجه، وقد يكون الوضع أشد وطئًا على الذين يعملون بحرف تقوم بها الآلة الآن – من الناحية المعيشية والمكانة الاجتماعية.
في الواقع، كنا نتمتع ببراعة متواضعة في حياتنا اليومية لعشرات الألاف من الأعوام الماضية — حتى قررت التقنية والرأسمالية التنازل عنها قطعًا. وإذا أردنا استقصاء أسباب تفشي اليأس في المجتمعات المتأخرة تفشيا سريعا، فخمول المهن العملية القديمة — والمعنى التي تضيفه لحياة الناس — تبدو محلا مجديا للاستطلاع كمؤشرات اقتصادية.
كذلك حين اعتدنا أن نبني علاقاتنا في الاحتكاكات اليومية — كالإيماء بالتحية والمجاملة مع الجيران التعرف على الوجوه المألوفة في الأسواق والطرق. ومساهمة التفاعل الافتراضي في طمس المجال التفاعلي الحي للمجتمع الواقعي. حينما ندخل مقهى ونرى كل شخص قد اعتكف في صومعته الرقمية، نستجيب للتأثير ونخلق صومعتنا الرقمية الخاصة. وعندما يرد شخص ما بجانبك على هاتفه ويتحدث بصوت عالٍ وكأن لا أحد بجواره، حينها تدرك أنك غير موجود في منطقته الخاصة. وبعجلةٍ بطيئة، سيطوى المفهوم الكلي للأماكن العامة — التي نجتمع فيها بمواطنين آخرين ونتفاعل معهم ونتعلم —في كتب التاريخ. يصف توركل واحدة من النتائج العديدة الصغيرة في مدينة أمريكية: “تشعر كارا وهي في عقدها الخامس، أنها تعيش في مسقط رأسها في بورتلاند–ولاية ماين، حياة خالية من الحياة، تقول: ” أحيانا أسير في الطريق وأرى أني الوحيدة التي لم تتصل بهاتفها… لا أحد موجود أينما حل. بل وجودهم يتصل بأشخاص يبعدون أميالًا. لقد اشتقت إليهم.”
هل عبوديتنا للدوبامين — في الاستمتاع بصياغة تغريدات منمقة أو في صنع تسلسل للقطات السنابتشات بصلاحيات واسعة — تجعلنا أكثر سعادة؟ ببساطة ماذا لو جعلتنا أقل سعادة، أو جعلتنا لا ندرك أن ما يشوبنا هو نقص السعادة. وأن هواتفنا بالكاد تكون أدوية حديثة وفعالة للاكتئاب كمثال لتنوع أدوية غير طبية. في مقالة عن التأمل العميق، أشاد الكاتب ألان جاكوبز بطريقة الكوميدي لويس سي كي لإخفاء الهواتف الذكية عن أطفاله. وفي برنامج كونان أوبرين قام لويس بتفسير ذلك: “أنت تحتاج القدرة أن تكون نفسك لا أن تفعل شيئا آخر. وهذا ما سلبته الهواتف النقالة.” وقال: “هناك شيء في داخلك … خاوٍ… يفضيك إلى الشغور والوحدة الموحشة … لهذا نحن نراسل بينما نقود … لأننا لا نريد أن نبقى وحيدين حتى لمدة ثانية.”
ثم جاء على ذكر أمرٍ بينما كان يقود سيارته، أن أغنيةٍ عبر المذياع عرت انتباهِه وجيشت وجدانه لبرهة مفاجئة وغير متوقعة. ثم شرع تلقائيًا بفتح هاتفهِ وتحديد أقصى قائمة ممكنة من الأصدقاء، ولكن عدل عنها وأعاد هاتفه إلى محله وقام بركن سيارته جانبا ليُفرج فجأة عن نحيبه. لقد أتاح لنفسه فرصة أن يجلس وحيدا مع وجدانه، ليحيط به وحده، يعيش شعوره دون تدخلات مباشرة، بلا مساعدة رقمية. عند إذ اكتشف طريق النجاة من زحفه في حفرة البؤس، ذاك الطريق الذي خفي على كثير منا. فلم تعد هناك ظلمة في الروح إلا وأضاءها وميض الشاشة والصبح لن ينجلِ ما دام الليل الحالك لم يأت. وكما علّق أيضا على العصر الحديث المتشتت: “لا تشعر فيه بأنك حزين حزنا كاملا ولا أنك سعيد سعادة كاملة، أنت فقط تشعر بـ … نوع من الرضا عما تمتلك. ثم تتوفى. ولهذا السبب لا أريد أن أعطي أطفالي هواتفاً.”
مرت الأيام الأولى في مسيرتي التأمليّة، وبدت مظاهر الجد تسمو اعتقادي بأن مهاراتي التأمليّة تخضع للاختبار بقوة صارمة. انسابت الأفكار؛ وطافت الذكريات حول عيناي؛ وشطفت جلسات السكون بطيف من القلق.
بعد ذلك في اليوم الثالث، واتاني أمر استحوذ على بصورة غير متوقعة. أربكني قليلاً. ولكن أغلب ظني أن تلك الأراضي الساكنة المغيمة بالأشجار وجداولها المعرقلة بجريانها أسفل جانب التل والطيور المرفرفة في الجو الرطب، استعادت ذكريات طفولتي. كنت صبيا يقضي ساعاتٍ عدة في الخارج بمفرده بين الأدغال والأراضي المشجرة في بلدتي ساسكس في إنجلترا. قمت باستطلاع هذه المناظر الطبيعية مع أصدقائي، وبمفردي أيضا — كنت ألعب أدوارا تمثيلية من ضرب خيالي، وأختار زوايا مخصصة للتسكع وأحيانا والقراءة، وأستكشف تفاصيل كل مسار بين الأشجار، وأسمي كل زهرة أو عشبة ضارة أو فطريات أعثر عليها. كان ذلك أيضا مهربي من منزلي الذي مرضت فيه أمي باضطراب ثنائي القطب بعد ولادة أخي الأصغر ولم تتعافى منه مطلقا. كانت تذهب إلى المستشفيات وترجع منها مرارا في أغلب مراهقتي وشبابي، ولصعوبة حالتها لم تستطع إخفاء ألمها ومعاناتها عن ابنها الأكبر مرهف الإحساس. عاينت الكثير من معاناتها الشديدة، مؤخرًا بدأت ألحظ وأسمع باستمرار معاناة إحباطها وبؤسها، وخلافاتها مع أبي، مع ووقوفي عاجزًا عن إيقاف الخلافات أو مساعدتها. أتذكر مقلتهُا المغرقة بالدموع حينما تقلّني من المدرسة الابتدائية لأنها سترى البيت الذي تهابه أو عندما أمسك بها أشعر وكأنها تسكب دم قلبها إلي، تتنهد وتهمس، عن حياتها التي انتهت في مدينة صغيرة واعتمادها الكلي على زوجها. أُخذت مني عدة مرات في طفولتي، منذ كنت في الرابعة من عمري، وحتى الآن أستطيع تذكر ممرات وغرف المراكز التي كانت تتعالج فيها عندما كنا نذهب لزيارتها.
لقد حفرت هذه الصدمة التكوينية ندبة في روحي. أمضيت عقدين للعلاج، أحاول تفكيك تلك العقد وأحللها، تعلمت أن المودة أمرا ليس آمنا، وكيف تسببت لي باكتئاب الفتية الحاد، كيف تسير سفينتي المخرقة إزاء هذا الألم من اقوى مصدر للحب في حياتي. لكن هذا الأمر تلاشى منذ تلك السنة التي عرفت بها نفسي وتكوّنت. وكنت كلما اشتد عودي وتقدمت متفاديًا للعراقيل، ظهر لي فجأة ما يعرقلني ويعيدني للوراء. ارتحت لبرهة أمام جذع الشجرة، وقفت عليها، ووجدتني فجأة منكبًا عندها أشجب نحيبًا.
وفي هذه المرة، لم أجد مهربا من هذا الوجع حتى عندما ذهبت إلى صالة التأمل. لم أستطع الاتصال بزوجتي أو صديقي لأبوح لهما. لم أستطع مراجعة بريدي الإلكتروني أو تحديث صفحتي على الإنستغرام أو مراسلة شخص ليشاركني هذا الشعور. لم أستطع أن أسأل رفقتي الذين يمارسون التأمل عما لو مروا بشيءٍ مشابه. انتظرت حتى يتحول هذا الشعور إلى شعور آخر، لكنه توغّل فيَّ بعمق. مضت ساعاتٌ صامتة لا قلبي اللجوج سكت ولا عقلي انفك دورانا.
قررت أن أعطي نفسي مجالا لأقوم بوصف ما أشعر به. وفازت الكلمتان “الألم الشديد” بمسابقة التسمية في رأسي. وعندما ذهبت في اليوم التالي لجلستي الإرشادية مع مرشدي وكانت مدتها ١٥ دقيقة، باتت الكلمات تتدفق من حنجرتي. وبعد ما بحتُ له بهلعي وهمي، نظر إلي بحاجب مرفوع ونصف ابتسامة مبشرة. ثم قال: “هوّن عليك، هذا طبيعي، وسيصلح الأمر.” وبالفعل بعد مدة وجيزة بدت الأمور تستعيد زمامها. فعلى مدار اليوم التالي، شعرت بتلك المشاعر تنحسر، وتأملي تحسن، وحزني تحول إلى نوع من الهدوء والراحة. شعرت بمشاعر من أيام الطفولة – كالانبهار بجمال الطبيعة، والاستمتاع مع الأصدقاء، ودعم أختي لي، ومحبة جدتي من أمي لي.
في بحث العصر العلماني الذي يتحدث عن كيفية إضاعة الحداثة الغربية للممارساتَ الدينية في نطاق واسع، استخدم الفيلسوف تشارلز تايلور مصطلحا يصف الطريقة التي نفكر بها في مجتمعاتنا. مصطلح “الخيال الاجتماعي” وهو مجموعة من المعتقدات والممارسات المتداخلة التي تضعف أو تساهم في تهميش أنواع أخرى من المعتقدات. يشيد تشارلز بأن أقدامنا لم تنزلق من الإيمان إلى العلمانية بهزة واحدة. هناك أفكار وممارسات معينة جعلت آخرين ليسوا مخطئين فحسب بل أقل حيوية أو صلة. وكما أقصت الحداثة الروحانية بمعولٍ بطيء، عنوة أو بغير عنوة، لصالح المادة؛ إذ قللت من أهمية الصمت وفضلت اللهث خلف الضوضاء والحركة المستمرة. وسبب ذلك أننا نعيش اليوم الثقافة بلا إيمان ليس لأن العلم دحض ما يمكن إثباته، بل لأن الضوضاء العلمانية أزالت السكون القادر على الاستمرار أو البعث من جديد كلما خبا.
أشار أحدهم بأن الإصلاح الإنجليزي قد حان، وفي ظل اعتداءات الأديرة، وأن ما يسكت المحتجين لا يبعد فيلسوفي التنوير المزيف. يصوّر غيبون وفولتير موقف التنوير تجاه الرهبنة أنها تمادت من الازدراء إلى الوقاحة الصريحة. زعزع زئير الثورة الصناعية وتشويشها كل ما بقي من الروحانية، حتى أتت الرأسمالية الحديثة وصنعت لها مركزية أعمال تجارية في ثقافتنا وقامت بتلبية كبيرة في أكثر مما نحتاج ونرغب لأهدافنا الجماعية الأولية. لقد أصبحنا مدنية لإنجاز الأمور – وفي بعض جوانب تطور أمريكا كان ذلك إنجازها الأعظم. لقد انطوى الهدوء على مر القرون وأصبح رمزا لخرافة تركناها خلف ظهورنا. يمكننا اعتبار ثورة الهواتف الذكية في العقد الماضي آخر عهدنا لهذه المعاني، بحيث تكون كل حبال التأمل في رجعته – للحظات الهدوء المختزلة في حياتنا – قُطعت قطعا مدروسا بمقص الدافعية والضجيج.
ورغم ذلك، فإن حاجتنا للهدوء والسكينة ليس شيئا يُستغنى عنه، لأنه مهما بلغت روعة إنجازاتنا، فلن نشعر معها بالرضا التام. بل إنها تفتح بابا لرغبات وحاجات أخرى جديدة، فنتطلع دائما إلى تحديثات وإصلاحات، ونظل نشعر بالقصور. كأن هوسنا بالحياة الشبكية يكشف لنا أمرا: أننا مازلنا نمرر أصابعنا عليها لأننا لا نشعر أبدا بالرضا التام. يطلق الفيلسوف البريطاني الراحل مايكل أوكشوت على هذه الحقيقة مسمى “The deadliness of doing”* (وهي تسمية استخدمها أوكشوت لوصف ذواتنا المعتادة والعقلانية وذات المصلحة الذاتية المنخرطة باستمرار في رغبة المزيد والمزيد). يبدو أنه لا يوجد نهاية لمفارقة هذه الحياة العملية ولا مخرج، يوجد فقط جهود متتابعة إلى الأبد، محكوم عليها جميعا بالفشل.
ولكن، هنالك بالطبع خيار للتصالح الروحي من هذا الوكر، محاولة لتجاوز دورة الإنجاز البشري المؤقت. هناك شيء آخر وراء العمل المحض، هناك الوجود؛ ما يلبث الإنسان أن يتوفى حتى يتواجد هنالك الصمت الكبير الذي يستلزم معه السلام في نهاية مطاف الحياة.
المكتبة، هناك حيث الصمت يشير إلى أمر يتوارى خلفه – إلى طلب العلم الذي يتطلب وقتا ومثابرة، إلى البحث عن الحقيقة الذي يجعلنا نترك حياتنا العملية وراء ظهورنا. كالسكون الذي يتلبسنا في لحظة مأساة، لكأننا نَرِدُ على أشياء أخرى أعمق من المعتادة، أشياءٌ تعجز عن وصفها الكلمات. أذكر وكأنه البارحة، عندما نُصِب المعلَم التذكاري لفيروس نقص المناعة في سوق في واشنطن بتاريخ ١٩٨٧م. ثم تجمّع حشد كبير من الناس واستهلوا بأحاديثهم الكثيرة، اقترب الأخدان نحو المشهد كالموج. وكلما اقتربوا، زاد رعبهم بمظهر الكدر منتصبا أمامهم، فانطفئت أصواتهم العالية، وغطى الصمت أرجاء المكان. كأنه يقول هنا: إن هذا أمر مختلف. ليست هذه حياتنا الطبيعية.
هذا الأمر يغيرنا بروية وبدون أن ندرك، يلغي كل احتمالية لأن نتواصل مع عقولنا وأرواحنا ونحكم الرباط عليها في الفراغ الخالي من الضغوط المستمرة أو الشهوات أو الواجبات. أما الهواتف الذكية فتمسك برباطها إلا أنها تبعدها عن الإحكام. رفع ثوريو هذه القضية ضد تلكم الضغوط منذ قرن مضى بقوله: “أقمت في الأدغال لأنني أردت أن أعيش على تبصّر، لأتعايش مع ما ينبغي أن يبقيني حيّا فقط، ولأعرف مدى استطاعتي في تعلم ما يجب تعلمه، وما لا، عندما شعرت بدنو أجلي، اكتشفت أنني لم أعش حق المعيشة. لم أتمنى أن أعيش ما ليس بحياة، فالعيش عزيز.”
يسافر مصممي ومهندسي الشبكات العنكبوتية هربًا مما خلفوه لنا. يذهبون إلى مكان لا تخترقه الأبراج الخلوية. مكان تضع هاتفك بخيمتك وتهمله أيام معدوداتٍ تعيشها عيشًا حقيقيًا. هناك تسود روح الاعتماد على النفس والتجسيد لقيمة المساواة. هناك أنت فقط بشريٌّ وتتعامل مع بشريّين آخرين – بدون اعتبار للحسب والنسب. هناك تجرّب؛ وتبني معارف في مخيمات مختلفة.
يشبه هذا النوع الجديد من المنهجية مدينة الألعاب، فهو يقلب الأعراف التي تتحكم بحياتنا رغما عنا. إنها مثل صمام الأمان الذي ينفس عن الضغط المكبوت نتيجة منعطفات الحياة. ويسهل محاكاتها، فهي تسعى لتحقيق ما تصبو إليه الثقافة برتابة، إنها تكشف لنا أننا ربما لسنا مكتوفي الأيدي أمام هذا العصر عصر التشتت. نحن نشعر بداخلنا أنه يمكننا التعامل معها بتوازن وأن نتعلم من جديد ما لم نتعلمه بسفاهة وأن نضبط أعصابنا كي لا تضبطنا هي بدورها.
هناك بوادر ازدهار لعمليات التصحيح الإنساني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في عام ٢٠١٢ كان هناك ٢٠ مليون مدرب لممارسات استرخائية وتأملية في الولايات المتحدة الأمريكية، استنادا لاستبيان إبسوس للشؤون العامة. وفي عام ٢٠١٦ تضاعف العدد. في نفس الوقت أصبحت كلمة الوعي العقلي شعارا مؤسسيا للكثير، وضربا جديدا من ضروب النزاهة لآخرين.
تخيل لو أن معظم المرافق المدنية استجابت كالآتي: المطاعم بوضعها مكانا مخصصا للهواتف الذكية عند المداخل، والمقاهي بتسويقها للأماكن الخالية من الشبكية اللاسلكية؟ أو بنحو عملي أكثر: عندما نتناول الوجبات نتفق على أن نضع أجهزتنا في صندوق بينما نتحدث معا البعض؟ أو حينما نتناول وجبة الغداء، من يستخدم هاتفه أولا يدفع المبلغ كاملا؟ نستطيع إن أردنا فعل ذلك، فقط صيام يوم واحد عن التقنية في كل أسبوع – يوم واحد نعيش فيه ٢٤ ساعة بدون أن نفتح هواتفنا. أو نغلق الإشعارات فقط. البشر عصاميون على المدى الطويل. ولكل اختراع جديد هناك ردة فعل مقابلة له. يرى المحللون المبصرين في ثقافتنا الحالية مثل شيري تركل أن هناك احتمال لإعادة موازنة حياتنا في نهاية مطاف هذا الأمر.
ولا زلت أستنكر أمرا ما، كيف يمكن لإغراءات الواقع الافتراضي المنتشرة أن تخلق مناخا نفسيا يصعب إدارته صعوبة بالغة. فبعد علاجي بأيام، وأسابيع، ثم أشهر، بدأت جلساتي التفكرية يتخللها الاهتراء. كنت أحاول اتخاذ قرار مهم لأيامي القادمة لكن عقلي كان مشتتا كمن يتصفح منصة السنابتشات. وقمت بقصر تصفحي للأخبار في العناوين الإحاطية اليومية؛ وشيئا فشيئا، وجدت نفسي أقوم بمسح العناوين الملفتة مسحا سريعا من عدة مصادر ملأت شاشة جهازي؛ وبعد فترة، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، أصبحت أتابع كل حملة إخبارية هامة، رغم يقيني بتشابهها؛ لتلاشي إثارتها في عيني بعد برهة، ثم إني لم أعد أحتاج أن أطلع عليها كلها لأغراض العمل.
يأتي بعد ذلك خطاطيف السنارات الأخرى: سهولة استبدال التراسل النصي عن كل محادثة حية؛ واللجوء إلى ملاذ الألعاب الشبكية مع استبعاد مواقف التواصل البشري التي تخرج المرء من منطقته الآمنة؛ أيضا المميزات الجديدة لمقاطع الفيديو على منصة الإنستغرام، ومتابعة الأصدقاء الجدد فيه. كلها كانت تدق في لحام جلساتي التأملية. قمت بتقليص جلسات الهدوء اليومية من ساعة إلى ٢٥ دقيقة؛ ثم بعد ما يقارب سنة كاملة، قمت بحذفها من قاموس أيامي كليا. أعرف أن ما اقترفته خطأً فادحًا – لأن رباطة الجأش في التأمل تتطلب نظاما صارما للممارسة، في كل يوم، سواء استحسنتها أم لا، وتلمست فوائدها في حياتك أم لا. إنها الرتابة التي تخلق متنفسا لحياتك بنحو تدريجي. ثم بدا العالم الذي انضممت إليه مجددا وكأنه يتحالف بقواته ليسلب تلك الفسحة من حياتي. كما قال الابن الأكبر في فلم شجرة الحياة لتيرنس مالك: “إني أفعل ما أبغضه،”
لم أستسلم، رغم أني أجد نفسي في بعض الأحيان أني أتنازل. إن في حياتنا كتبا نقرؤها، وأراضٍ نسير عليها؛ وأصدقاءً نمضي الوقت معهم؛ وحياةً نعيشها ملء جوارحنا. أدركت أن هذا الأمر في بعض النواحي ليس إلا ضربا من ضروب التعثر في تاريخ البشر. وأن وباء التشتت الجديد هذا هو نقطة ضعف حضارتنا بالتحديد. وتهديده لا يملأ عقولنا فقط، رغم تشكُّلها تحت هذه المؤثرات. وإنما يتعدى بتهديدهِ أوليًا على أرواحنا. وإن لم يهدأ عيشنا بهذا الكم الهائلٍ من الضوضاء فقد ننسى أنه كان لدينا شيئًا منه أصلا.
ترجمة: البتول التويجري
تدقيق: ابتسام ..
مراجعة: أريج السعد
*هذا المصطلح لم يعرب بعد، مرفق ترجمة شرحه بين الأقواس.
المقالة الأصلية:
https://nymag.com/intelligencer/2016/09/andrew-sullivan-my-distraction-sickness-and-yours.html