الوطن هو الكيان الأصيل الذي يسبقُ وجودنا في الحياة..
ويمثل وجودنا في كل شيئًا آخر، أوطانُنا صورة أصلٍ ونحنُ الإنعكاس.
أجمع ذكرياتي الحاليّة العشوائية إلى جانب ذكرياتي الخالدة بدءًا من ذكريات طفولتي إلى لحظة الوداع المحتوم هذه.
كل شيءٍ يشكل وجه الوطن في مخيلتي يجبّ أن أجمعه.
من منزلي هذا، من مدينتي، ذكرياتي المُجزئة.
وفي معمعة الذكرى، أتذكر قولي؛ الوطن هو الأرض التي تختارنا دون أن تعرف ما إذا كنّا سنختارها أم لا “
فهل بفعلي هذا اختار الوطن؟ أم أني أكفر عن ذنب الرحيل؟
أفكر في جميع الأسباب التي حملتني على السفر لاُقنع نفسي بضرورة المغادرة.
أتمعنُ جيّدًا في منزلي، في أرضيته الخَشبية، في شاشة التلفاز الرصاصية، في لوحاتي المُلونة بدّقة. في شراشفي البيضاء المغسولة، وفي شبّاك الصالون المفتوح.
أتمعنُ في كل زاوية، ولا أجد معنىً لهذا الوداع.
في طريقي إلى المطار، أحملُ كل شيء.
كل ماتسعفني الذاكرة لحمله.
رائحة الشوارع، وجوه الناس، أصوات المارة، ألوان البنايات، لوح المحلات، بريق الشمس الساطع، حفنةً من تراب الأرض.
كل ما أقدر على ترصيصه من ذكرى انتماءً شديد يحدّ من تواطئي المتغرّب.
وهكذا أمضي إلى المطار أتذكر قول محمود عندما وصّاه والده قبل السفر؛ ” عند عتبة المطار وقبل إقلاع الطائرة بدقائق أترك ذكرياتك على الأرض، لا تأخذ الماضي فإن الحمولة زائدة. ” ماذا لو أني أفعل العكس؟ أنسى كل ما أحاول تذكره؟ أدفن كل ما أحاول إحيائه؟
أحاول جزافًا مداهمة ذاكرتي المُثقلة بفعلٍ عكسي، أحاول أن أُلقي بذاكرتي المُحمَّلة بالذكرى عند باب المطار لأطرقُ باب الغربة فارغةً، تمامًا كما أتيت إلى الوطن.
تقول الأديبة مي التلمساني؛ ” وهل غاب الأمل أبدا؟ وكيف كانت ستكون حياتي في الغربة لو لم يخايلني الوعد بالعودة النهائية لمِصر؟ لست إذًا في منفى ولم يطرأ على بالي مفهوم المنفى، إلا من باب الجدل الأكاديمي، مهاجرة؟ نعم، في حال بين الترحل والاستغراب هو تلك الغربة الاختيارية، التي لا يتحمّل أساها غيري، أعرف أني أخترت البقاء في كندا على أمل العودة لمِصر، واخترت الهجرة من مصر على أمل الاستقرار في كندا، وبين البينين فقدت الشعور بالإنتماء لبيتٍ واحد “
أصعد على الطائرة مثقلة بتوقعاتٍ فذّة، وحلمٍ ثقيل، وآمال امرأة مسافرة.
أشعر بعمقٍ الغربة ينخرّ داخلي إذ أتذكر كل الأدباء المُهاجرين، كل من كتبوا عن آلام ومتاع الغربة، كيف نجوا ياترى؟ كيف كانوا يحملون أصوات عائلاتهم؟ أصدقائهم؟ أوليست الغربة وجهً آخر للوحدة؟
من ذا الذي يتبنى نصوص أدب الغربة التي توقعُ في أرضٍ وتنتمي لأرضٍ آخرى؟
يقول الأديب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران:
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبدًا بوطنٍ سحريٍّ لا أعرفه، وتَملأ أحلامي بأشباح أرضٍ قصية ما رأتها عيني.
أنا غريبٌ عن أهلي وخِلَّاني، فإذا ما لقيتُ واحدًا منهم أقول في ذاتي: «من هذا؟ وكيف عرفته؟ وأيُّ ناموس يجمعني به؟ ولماذا أقترب منه وأُجالسه؟»
أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني مُتكلِّمًا تستغرب أذني صوتي. وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مُستبسلة خائفة، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي. ولكنني أبقى مجهولًا، مُستترًا، مكنفًا بالضباب، محجوبًا بالسكوت.
هكذا ينكر نفسه جبران في غربته، إذ أن الغربة ليست غربة جسدٍ ولا وطن، بل غربة الروح عن موطنها.
وشاعر مهجر آخر؛ أيليا أبو ماضي يعيش الغربة ويسكنه وطن :
لَيسَ بي داءٌ ولكِنّي امرُؤٌ لَستُ في أرضي ولا بَينَ صَحابي
أَنا في نيويوركَ بالجسمِ وبالروحِ في الشَرقِ على تِلكَ الهِضابِ.
أن الهاجس الوحيد الذي أرّقني في غربتي هو خوفي من عملية توطين جديدة تلقي شباكها عليّ، خوفي من أن أكون ضحية وطنٍ وغربة في الوقت ذاته، أن أنتمي للبينين كما تقول ميّ، أحمل غربتي حتى في وطني لتستوطنني هذا التقاطيع وتعيش فيّ، مثلما حدث مع بهاء طاهر الذي أستوطنته غربته حتى في وطنه، حين عبَّر عن تغربه الحزين قائلًا:
لا زالت تسكنني وتستوطن أفكاري بل ومصيري نفسه.. هذه الغربة التي لا مفر منها عندما يعيش الإنسان مثل هذه الحالة من الشعور، عندما يسير المرء حاملًا منفاه على ظهره، وإن كان في قلب الوطن وبين أهله.
تجتمع عليّ عواصف الشكّ وأأبى الخضوع لها، أأبى التخلي عن البينين والإنحياز لأي طرف.
وفي لحظة يقين، تلاشى الشّك والظن، ها أنا ذا أرى الحلم حقيقة والعودة واقع.
هكذا أغادرك وهكذا أعوُد أسكنك تارةً وتسكنني كل حيّن.
هكذا يكون الوطن، كيانٍ متأصل في دواخلنا، لا نغادره إلا فيه..
ليس الوطن الذي نختاره بل الوطن الذي يختارنا ونعجز أن نفارقه طوال العمر.
إلقاء: منار الهلالي ، تويتر: @tashabuk99
نص: أمل سيف
موسيقى وهندسة صوتية: ماهر الغامدي