ابحث هنا

ما القيمة من الكتابة؟

توجد لدينا فكرتان متعلقتان بالكتابة تعلمناها ونحن صغار، ولكن هاتين الفكرتين أثرت علينا سلبيًا كبالغين عندما نقرر كتابة أي نص، علميًا كان أم أدبيًا.

الفكرة الأولى تزعم بأن التعبير يتكون من مرحلتين متتاليتين: مرحلة التفكير، فمرحلة الكتابة.
لا تستطيع أن تكتب قبل أن تفكر. عليك أن تفكر، ومن ثم تكتب لنا في نص تعبيري محصلة تفكيرك“، وهذه الفكرة بالطبع خاطئةٌ تمامًا.

التفكير والكتابة ليستا مرحلتان مستقلتان، ولكنهما جزئان متلازمان ومتزامنان للتعبير؛ نحن نكتب لكي نفكر، ولا نكتب لكي نعبر عن تجربةٍ وتفكيرٍ مسبق.

هذا لا يعني انعدام فكرةٍ مبدئيةٍ لديك لتكتب عنها، ولكنها ليست مرحلةً تسبق الكتابة، بل هي جزءٌ من العملية.

الفكرة الثانية: (أسمّي هذه الفكرة “المعروض الإداري”، أو “القمع المزدوج”، وهي الفكرة السائدة، خصوصًا لدى طلاب الجامعات)

يبدأ هذا النص أو هذا “المعروض” بمقدمة -تشبه فم القمع- تشرح فيها معلومات خلفية حول موضوع النص. يعقب المقدمة شرحٌ مركز -كعنق القمع- لمكونات وأجزاء النص. ومن ثم الخلاصة، توجز فيها الشرح.

هذا النموذج -في اعتقادي- سيءٌ جدًا للكتابة العلمية، أو حتى الأدبية.

لربما لاحظتم تكرار كلمة “شرح” في هذه الفكرة، وذلك بالتحديد هو نقدي لهذا النموذج. اعتقد أنه يتوجب عليك الابتعاد تمامًا عن الشرح.

التعليم الأكاديمي رسخ فينا فكرة الشرح هذه، ولكن لا يمكنني لوم التعليم على ذلك؛ فالمعلم عندما يسأل الطالب ويطلب منه الشرح، فهو يريد معرفة المخزون المعرفي لدى الطالب، بهدف تقييمه على فهمه له.
أما في العالم الخارجي -إن صح التعبير- لا يريد أحدٌ تقييمك على مخزونك العلمي، ولا يهتم أحدٌ لما تملك من معرفة.

بسبب هاتين الفكرتين، أصبح لدى الكثير من الناس -حتى الخبراء- مشاكل عميقة في الكتابة، لا أحد يتقبل بحوثهم، ولا تنشر ورقاتهم أو كتبهم، وكل ذلك بسبب اعتمادهم للأسلوب القمعي في الكتابة، وهذا الأسلوب لا يراعي المتلقي على الإطلاق، ويضرب به عرض الحائط.

أنت لا تكتب لكي يتم تقييم معرفتك، أو لشرح مادة ما، ولا تكتب كي تعبر عن ما بداخل رأسك من أفكار (فـ”العالم لا يدور حولك” كما يقال)، وإنما أنت تكتب كي تغير أفكار الأخرين.

المشكلة تكمن في التالي:
أنت تكتب وتفكر وتكتب وتفكر وتكتب، وتهتم كثيرًا بهذه العملية، وبظنك، عليك أن تراعي قواعد اللغة، والقواعد الإملائية، وقواعد الكتابة (الوضوح، التنظيم، الاقناع)، ولكنك تغفل شيئًا أهم من ذلك كله، وهي القيمة (الفائدة)

هذا لا يعني ألا تهتم بتلك الأمور، ولكنها ثانوية تمامًا، وبإمكانك كسرها؛ فإن كان النص واضحًا وغير مفيد، فهو غير مفيد، وإن كان النص منظمًا وغير مفيد، فهو غير مفيد، وإن كان مقنعًا وغير مفيد، فهو غير مفيد.

تلك القواعد -سواءً كانت لغوية أم غير ذلك- هي أدوات تساعدك على خلق القيمة، لكنها ليست الهدف من النص، ولا ينبغي أن تعيقك عن تحقيق القيمة.

فلنفترض نموذجًا آخر مغايرًا لنموذج “القمع”، (أسميه “نموذج الجدوى”). لا بد أن تخلق جدوى للنص الذي تكتبه، وذلك يتأتى باتباع منهجية (أستطيع ترسيخها في ثلاث كلمات، أو ثلاثة أفكار متوالية): المشكلة – تبرير المشكلة – الحل.

تلك المشكلة ليست محصورة فيك، فهي ليست عائقًا تريد تجاوزه، أو هدفًا شخصيًا ترغب بتحقيقه، بل تلك المشكلة هي مشكلة لدى القارئ في المقام الأول، أو مشكلة تهمه.

فحينما يدرك القارئ أن لديه مشكلة، فهو يهتم بمتابعة القراءة، ومن ثم، تبرر له -ولنفسك كذلك- أنها فعلًا مشكلة، ولم هي مهمة ويجب معالجتها، وما هو الحل المقترح.

إن لم تخلق قيمة للمتلقي، فلا أهمية للنص، ولن يقرأه أحد.

هذا النموذج -في اعتقادي- يمكّنك من خلق القيمة. ذلك لأن القيمة ليست في المحتوى أو المخزون المعرفي أو التجريبي داخل النص، بل القيمة في المتلقي ونمط قراءته.

فنموذج الجدوى – كما سمّيته- يعتمد على اختيار عبارات تدل على عدم الثبات والاستقرار، بخلاف نموذج القمع، ولذا، فهو يراعي نمط قراءة المتلقي -الباحث دومًا عن مشكلة- ويأخذه في رحلة مشوقة ومثيرة وقيّمة تجاه الحل.

شاركنا رأيك

اقرأ أكثر:

ألهمتني الكَاردينيا

تعلمتُ من نبتة (الكاردينيا) التي اشتراها أخي قبل شهرين درساً عظيماً، ففي الوقت الذي أوشَكت فيه على الموت المحتّم، بعد اصفرار وتساقط أوراقها بشكل...

تواصل مع ذاتك المُستقبلية

تُوضع أحياناً في ظروف حياة يُخيّل إليك أنك قابعٌ فيها لا محالة، وأنك لن تتقدم أو يتغير حالك لمدة من الزمن، وبآليةٍ لا شعورية تنقلبُ أحوالك، تنزلُ من...

%d bloggers like this:
Verified by MonsterInsights